خصصنا حديثنا اليوم عن النسوية الغربية، كون المجتمعات الأوروبية شهدت أول نشوء لمجتمع المدينة الصناعي، وهجرة الفلاحين المكثفة من القرى وهبوطهم للمدن، وما رافق هذه الهجرة من تغير في المفاهيم والروئ، ومستوى الوعي، والنظرة للكون والحياة. وقد ذكرنا، في مقالات سابقة، أن مجتمع المدينة، متمثلا في السوق، مسؤول عن نشأة الفكر النسوي، حيث نشأت عن هجرة الناس من القرى إلى المدن جملة من التناقضات والصراعات الفكرية، التي أسهمت في الاختلال الوظيفي بين الرجال والنساء. هذا الاختلال يعود لتقسيم العمل في القرية، الذي يختلف اختلافا جذريا عن تقسيم العمل في المدينة، وهذا الاختلال في تقسيم العمل يعد من أهم دوافع نشوء الفلسفة النسوية. السوق هنا ليس فقط مكانا لتبادل السلع، والذي تتم فيه عمليات البيع والشراء. إنه السوق بمعناه الشامل. المؤسسة العليا المهيمنة على أغلب المعاملات الاجتماعية، ومن خلاله تتشكل العلاقات الاجتماعية، لدرجة أنها تنظر لأفراد الأسرة بقدر إسهامهم في عمليات الإنتاج، وهو ما يقاس من خلال هامش الربح. لذلك، فالنسوية، التي هي مجرد إفراز من إفرازات السوق، تدعو إلى فصل بعض الممارسات عن قيودها الاجتماعية والأخلاقية، ثم إعادة تشكيلها مرة أخرى في صورة تجعلها مقبولة بشكل أكبر لقيم السوق ومصالحه، من خلال الافتراض أن أي قيمة أخلاقية أو صفة طبيعية تضاف للمرأة ليست في الحقيقة إلا من صنيع الثقافة والمجتمع، وبالتالي تتمحور النظرية النسوية حول مناقشة العلاقة بين ما هو بيولوجي وما هو ثقافي، لاستبعاد أي قيم ومفاهيم وأعراف تتضارب مع حركة السوق، والتبادل السلعي الذي لا تعد فيه القيود الأخلاقية جزءا من آليات العمل. ويبدو أن تيار السوق الجارف وسيرورات التغيير الملازمة له واصلت دورها في تغيير جوانب كثيرة من حياتنا الاجتماعية والاقتصادية، حتى أصبح من النادر وجود قيمة أخلاقية أو اجتماعية لم تطلها يد السوق، فالسوق اليوم يعيش قمة عنفوانه ومجده، حتى صار يجند المثقفين والكُتاب والأكاديميين، لخدمة مصالحه وتحقيق غاياته. الجامعات الغربية اليوم تبدو وكأنها تحولت لثكنات في معسكرات السوق. غالب الأبحاث والدراسات في العلوم الإنسانية والطبيعية تركزت في خدمة السوق الاستهلاكي، وقياس سلوك المستهلكين وآرائهم بواسطة المناهج العلمية. بينما تركزت جهود كثير من مراكز البحث والباحثين الأكاديميين على دراسة التصورات الاجتماعية في سبيل إعادة صياغتها، لتوجيه كامل النشاط الإنساني لخدمة السوق، ويستتبع ذلك تشكيل فهم جديد للوشائج التي تربط الناس بعضها بعضا، وتحديدا تلك الوشائج التي تربط الرجل بالمرأة، وصياغتها صياغة جديدة حتى تبدو طبيعية وعقلانية. لذلك نستطيع القول إن النظرية النسوية الغربية تنطلق من رؤية للعلاقات الاجتماعية من منظور اقتصادي. يملك السوق الحديث القدرة والنفوذ والإمكانات، مما يجعله يكيف المجتمع بأكمله وفق مصالحه ومتطلباته، فالسوق مصدر للخيرات والوفرة والثراء، ومن خلاله يحصل الإنسان الحديث على استقلاله الاقتصادي ومكانته الاجتماعية. لذلك، أصبح الهدف الرئيس من التربية والتعليم في غالب بلدان العالم يصب في مصلحة «سوق العمل». للسوق حضوره الطاغي والمكثف في حياتنا اليومية، وكل وسائل الإعلام والتواصل لا تتوقف عن نشر منتجات السوق الاستهلاكية على أوسع نطاق وأبعد مدى، وكل شيء تقريبا تحول إلى رأسمال. البشر أنفسهم تحولوا إلى رأسمال بشري وموارد بشرية، يخدمون السوق بكل تفانٍ وإخلاص. وليس من الغريب القول بأن النظرية النسوية الغربية كُرست لمناقشة أي قيم ثقافية أو إشكالات جندرية تتضارب مع مصلحة السوق، بل إن مفهوم «الجندر» صار مقياسا تقاس من خلاله أوضاع النساء داخل مجتمع المدينة، لدراسة أي عوائق اجتماعية أو قيود ثقافية قد تعرقل مسيرتهن في أي نشاط اقتصادي. فالمرأة، حسب أبسط أبجديات الخطاب النسوي الغربي، «لا تولد امرأة»، فالذكورة والأنوثة، والعلاقات الحميمة بين الرجل والمرأة، كلها دخلت دائرة الثقافة، حتى أصبحت مجرد منتجات ثقافية يجب مناقشتها. وهنا يأتي دور الناقد النسوي، بصفته خادما أمينا للسوق، يبحث وينقب ويدرس، ويعطي العلاجات الثقافية التي تضمن للسوق المزيد من النماء والوفرة.
مشاركة :