«لم يكن التنقل في هذه المنطقة أو الوصول إليها سهلاً، لكن الحياة آنذاك، رغم الصعوبات والتحديات، كانت جميلة ولا تنسى، صحيح أن البيوت كانت صغيرة وبسيطة، لكننا كنا نراها كبيرة جداً، وكانت مليئة بدفء العلاقات الوطيدة، وروح التكافل بين أفراد الفريج الواحد أو المنطقة بشكل عام، لهذا أدعو أبناء الوطن إلى التمسك بالقيم التي تربينا عليها، وأن تكون قيم الآباء المؤسسين زادنا في رحلتنا إلى المستقبل»، إذ لا يخفي الإعلامي والرحالة، إبراهيم الذهلي، حنينه وتأثره حين يعود بذاكرته إلى تفاصيل الحياة في «الفريج» الأول و«أول بيت»، وتحديداً في منطقة «الكرامة» بأبوظبي، التي كانت تعرف باسم «الروضة»، نظراً إلى وجود أول روضة أطفال تم افتتاحها في أبوظبي، فيشعر الذهلي بحنين دائم لمنطقة البيت الأول، وطيبة الناس في تلك الأيام، وهو ما يبحث عنه في أسفاره، فتلك الأيام شكّلت جزءاً كبيراً من ذكرياته، وأثرت في اختياراته لوجهات السفر، حيث يرى في القرى والمدن الصغيرة، التي لاتزال تحتفظ ببساطتها، انعكاساً لروح الحياة التي نشأ عليها، وعلى الرغم من تجوال الذهلي في 200 دولة كرحالة ومشاهداته الكثير، إلا أن ذكريات الهروب من المدرسة لتناول الطعام في كافتيريا «الشموع»، الشهيرة عند أبناء جيله، لا تفارقه. يقول الذهلي لـ«الإمارات اليوم»: «بُنيت هذه المنطقة في أوائل السبعينات بتوجيهات من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، وكانت مخصصة لسكن كبار الموظفين بالدولة في ذلك الوقت، وكانت هذه البيوت بمعايير وقتها كبيرة وفخمة، وكانت مؤلفة من ثلاث غرف وصالة، إضافة إلى المجلس، لكن مع مرور الوقت، وتقريباً بعد 30 عاماً، بدأ أصحاب هذه البيوت هدمها وإعادة بنائها وفق معايير حديثة وعصرية تتناسب مع الزمن الحالي، لكن حالياً معظم سكان المنطقة هجروها إلى بيوت ومناطق وتوسعات عمرانية وإسكانية جديدة، شهدتها أبوظبي مع حركة النمو والتطور الكبير الذي تشهده، حيث إن أكثر من 80% من سكانها وأصحابها وورثتها لم يعودوا يعيشون فيها، وقاموا بتأجيرها، خصوصاً بعد أن كبرت هذه العائلات، وزاد عدد أفرادها، وكبرت الحاجة بالضرورة إلى مناطق وبيوت أكبر». ذكريات وحنين يتجول الذهلي في المكان بينما ينظر إليه بمنطق الطفل الذي كان يلعب ويركض هنا وهناك بصحبة أطفال آخرين من أبناء الفريج الذين لاتزال تربطه بهم علاقات قوية، ويرى الذهلي اليوم البيوت صغيرة لكن، بحسب وصفه، كان يراها كبيرة جداً، وكان في ذلك الوقت مجرد المشي حول «الحوش» بمثابة المغامرة والإنجاز.. يتحرك الذهلي في مكان البيت الأول متذكراً الجيران الذين كانوا ولايزالون مثل الأهل، مشيراً إلى مسجد الفريج الصغير الذي أعيد بناؤه بمواصفات حديثة، وهو مسجد المغفور له الشيخ أحمد عبدالعزيز المبارك، رئيس القضاء الشرعي في أبوظبي أواخر ستينات القرن الماضي، الذي لاتزال العلاقة مع أولاده وأحفاده قائمة ومتجددة، أمثال أيمن المبارك وتوفيق المبارك، وآخرين من عائلة المبارك، ويلتفت إلى الجهة الثانية، مشيراً إلى بيت سالم عبيد الظاهري مدير شرطة أبوظبي في مرحلة من السبعينات، وأولاده الذين كانوا رفاق الطفولة، ولاتزال الصلة والعلاقة قائمة رغم تباعد الأمكنة، مثل المهندس محمد سالم الظاهري، وعبيد سالم الظاهري وهو طيار متقاعد، وشقيقه الدكتور جمعة وهو طبيب قلب، وعبدالله سالم الظاهري الذي كان سفيراً للدولة في إندونيسيا، وغيرهم من أبناء الفريج الذين لايزال الذهلي يعرف بيوتهم، ويشير إليها، مثل بيوت عائلة المزروعي، وسعيد الرميثي، وغيرهم الكثير ممن لايزالون يحتلون حيزهم المهم من الذاكرة. وفي رحلته بين تفاصيل «فريجه»، يتذكر الذهلي بعض قصص الطفولة الطريفة، فعلى مسافة قريبة من البيت الأول، كان هناك بيت سكنه عدد من الأجانب، الذين كانوا يقيمون الحفلات التقليدية الراقصة، مثل الرقص الإسكتلندي، وهذا الأمر كان بالنسبة للذهلي وأصدقائه الأطفال مزعجاً وغريباً، فكانوا يتسللون ويرمون عليهم الحصى والرمال، ولاحقاً صاروا ينظمون دوريات مراقبة لكشف من كان يقوم بالأمر، وإلى جانبه أيضاً بيت سكنه إنجليزي الجنسية، وكان لديه قرد صغير، وكان الأمر على درجة كبيرة من الإدهاش، خصوصاً عندما كان هذا القرد يهرب من بيت صاحبه ويدخل بيت الذهلي، ما يتسبب في حدوث فوضى كبيرة. مكان وتجارب لفت الذهلي إلى أن تسمية المنطقة بـ«الروضة» كان نسبةً إلى افتتاح أول روضة في أبوظبي بالمنطقة، ثم لاحقاً تحولت إلى عيادة طبية شهيرة اسمها «عيادة الروضة»، يعرفها أبناء المنطقة جيداً، ويتذكر كم كان السير في تلك المنطقة صعباً بسبب الرمال، قبل أن تشهد المنطقة تطوراً ملحوظاً، وأصبحت تضم العديد من المعالم المميزة، مثل الجمعية التعاونية الأولى التي كانت تلبي احتياجات سكان المنطقة في تلك الفترة، وتحمل العديد من الذكريات الجميلة لسكانها، فضلاً عن ذكريات مطعم «ناصر» الذي كان يقدم ألذ أطباق البرياني، والذي كان ولايزال أحد أشهر المطاعم في أبوظبي التي لايزال الذهلي يذكرها حتى اليوم. وواصل الذهلي بين الطرافة والحنين استعادة أحداث وذكريات لاتزال في مخيلته، مثل حادثة عقوبة أحد الطلاب في مدرسة محمد بن قاسم الابتدائية بشارع حمدان، حيث أمسك به عدد من المدرسين وقاموا بضربه على قدميه بالخيزرانة، هذه الحادثة وغرابتها لاتزال عالقة في ذهنه، ولايزال مسكوناً بمعرفة سبب هذه العقوبة حتى اليوم، وفي حادثة أخرى يتذكر الذهلي أنه كان ينتظر قدوم الباص مع عدد من رفاقه، ويلعبون لعبة شعبية اسمها «المسطاح»، حيث يضربون عصا صغيرة، والفائز من يستطيع إيصالها إلى مسافة أبعد، لكن أحد اللاعبين بدل ضربه للعصا أصاب أنف الذهلي بقوة شديدة، تسببت له في إصابة بالغة، رافقته سنوات قبل أن يجري عملية خاصة بالأمر لتصحيح مكان الإصابة، هذه العلاقة والأحداث مع العصا ألهمته تأليف كتاب حمل عنوان «العصا»، الذي يعد أول بحث متكامل يبحر في هذا الجانب التراثي، ولا يخفي الذهلي أنه تعرّض للضرب في طفولته في مواقف عدة، ما ساعده على اكتساب دروس لا تُنسى، أبرزها أهمية الحفاظ على الصلاة في وقتها، كما لفت إلى أن العصا التي كانت تستخدم أحياناً في الضرب، تمثل أكثر من مجرد أداة تأديب، فقد كانت رمزاً للانضباط والتوجيه، ما غرس في نفس الذهلي قيماً أساسية ساعدت في تشكيل شخصيته. تغيرات متلاحقة وأشار الذهلي إلى التغيرات التي حصلت بعد قيام الاتحاد، والتي وصفها بأنها نقلة «من حال إلى حال»، حيث تم بناء البيوت الشعبية، وانتقل إليها كثير من المواطنين أبناء المنطقة، وكانت تلك الأيام مليئة بالتحولات والتجارب، متذكراً تجربته الدراسية التي بدأت في مدرسة محمد بن القاسم، مروراً بمدرسة ابن سينا الابتدائية، ومدرسة عمر بن عبدالعزيز الإعدادية، وانتهاءً بثانوية أبوظبي، إذ أشار بحنين إلى المواقف الطريفة، مثل الهروب من المدرسة لتناول الحمص واللحم في كافتيريا «الشموع» الشهيرة، واستذكر أبرز معالم المنطقة حينها، كثانوية أم عمار للبنات التي كانت شاهدة على تخرج الكثير من بنات أبوظبي في تلك الفترة، وأول سوبرماركت ومطعم «شامي» في المنطقة. «قيم زايد» وجّه الإعلامي والرحّالة الإماراتي، إبراهيم الذهلي، رسالة إلى أبناء الوطن، دعاهم فيها إلى الحفاظ على القيم والعادات التي زرعها الآباء المؤسسون، مشيراً إلى أن «دولة الإمارات تظل الملاذ الذي لا يُضاهى، مهما ابتعدنا عنها واستكشفنا العالم، ولو وصلنا إلى الفضاء»، وأضاف أن تميز الإمارات لا يقتصر على تطورها، بل يشمل تمسكها بقيم أسَّسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، التي مكّنت أبناء الوطن من إدراك قيمة وطنهم كدولة تضيء لهم الطريق، وتفتح آفاقاً كانت بعيدة عن أحلامهم، وختم رسالته، قائلاً: «مهما بلغتم من العلم والتقدم، يجب أن تحافظوا على القيم التي ورثناها عن قيادتنا وأجدادنا.. التمسك بالعادات والتقاليد لا يعني الابتعاد عن الحاضر والمستقبل، بل هو ما يحفظ هويتنا، ويعزز القيم الدينية والاجتماعية التي نعتز بها». «الحنين» على الرغم من سفره وترحاله بين 200 دولة حول العالم، ومعايشته الكثير من التجارب والأماكن ذات الجمال الآسر، إلا أنه لا شيء يضاهي إحساسه الخاص بمدينته، خصوصاً أبوظبي، التي يعود إليها الإعلامي والرحّالة الإماراتي، إبراهيم الذهلي، بشغف متجدد، فذكريات طفولته التي ارتبطت بمنطقة «البيت الأول» مازالت حية في ذاكرته، هذه الأجواء والذكريات التي شكلت جزءاً مهماً من حياته كانت الدافع الرئيس لاختيار وجهات سفره، حيث يرى في المدن الصغيرة والقرى انعكاساً لروح الحياة التي عاشها في صغره، ومن خلال كتاباته ومنشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، يواصل الذهلي توثيق هذه اللحظات والذكريات التي تبقى جزءاً من هويته الثقافية. في سطور خريج جامعة الإمارات تخصص إعلام وسياسة سنة 1989. عمل باحثاً سياسياً بديوان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه. رحالة حول العالم، حيث سافر إلى أكثر من 200 دولة. مؤسِّس أول مجلة سياحية متخصصة بدولة الإمارات «أسفار» التي تهتم بشؤون السفر والسياحة سنة 2000. كاتب لمدة 12 سنة في عمود أسبوعي بجريدة الاتحاد (قبل الإقلاع) مختص بشؤون السياحة والسفر. مصور فوتوغرافي وحائز جوائز محلية ودولية عدة في مجال التصوير. حصل على جوائز عدة تقديراً لجهوده في الإعلام السياحي العربي. شارك في تقديم العديد من المحاضرات عن الثقافة السياحية. سفير النوايا الحسنة لجمعية «تحقيق أمنية». رائد ونشط في مجال الـ«سوشيال ميديا». ■ صدر له: كتاب «العصا» كأول بحث متكامل يبحر في هذا الجانب التراثي. كتاب «أبوظبي ذكريات من الماضي». كتاب «أسفاري». • بُنيت منطقة الروضة في أوائل السبعينات بتوجيهات من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، وكانت مخصصة لسكن كبار الموظفين بالدولة في ذلك الوقت. • عُرفت المنطقة بـ«الروضة» نسبة إلى افتتاح أول روضة في أبوظبي، ثم لاحقاً «عيادة الروضة» التي يعرفها أبناء المنطقة جيداً. • بعد 30 عاماً، بدأ أصحاب البيوت هدم بيوتهم وإعادة بنائها وفق معايير حديثة، لكن حالياً معظم سكان المنطقة هجروها إلى بيوت ومناطق وتوسعات عمرانية وإسكانية جديدة. • الجمعية التعاونية الأولى تحمل العديد من الذكريات الجميلة، فضلاً عن ذكريات مطعم «ناصر» الذي كان يقدم ألذ أطباق البرياني. تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news Share فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :