ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم - المتنبي - غالباً ما يكمن «التعقيد» في «أبسط الأشياء»، وهذا حالنا عندما نتحدث عن «التفاهة»، فمن الوهلة الأولى قد يبدو تحديد إطار لجمع شتات دلالتها، هو أمر يسير، لكن عندما تتأملها من زواياها المختلفة ستجد أن من الصعوبة أن تقيّدها في إطار آحادي ثابت التداول، أو ممارسة سلوكيّة خاصة، وحيناً لا يُمكن حصرها في صياغة قولية محددة. وقد يندهش البعض من هذا القول باعتبار أن التفاهة «بيان لا ريب فيه»، وهي دهشة مرجعها الاستسهال في وصف ما لا يعجبنا « بالتفاهة»، وهذا الاستسهال هو الذي يُشعرنا بأنها «بيان لا ريب فيه». «فالتفاهة» هي للوصف أقرب من المصطلح؛ لأن ما قد أعتبره تافهاً قد يعتبره غيري ليس بتافه، وهذا الخلاف في تقدير الاعتبار هو الذي يُدخل «مفهوم التفاهة» في اضطراب حركة تقدير النوع وخضوعه للنسبية. وهي ليست بمصطلح؛ لأنها لا تحتكم إلى معايير ذات متفق جمعي ثابتة التقويم والتقييم، رغم امتلاكها كوصف سلة من المؤشرات، سواء في التقدير أو الضديّة؛ فمؤشرات التقدير هي «السطحية سواء في طبيعة شخصية صانع المحتوى أو المتلقي أو المحتوى أو التعبير وطريقة التفكير»، أما مؤشرات الضديّة فهي «العمق سواء من خلال طبيعة شخصية صانع المحتوى أو المتلقي أو المحتوى أو التعبير وطريقة التفكير». وبذلك فنحن أمام خمسة مؤشرات تتحكم في وصف «التفاهة» عبر وسائطها لا دلالتها؛ صفة صانع المحتوى، خصوصية المحتوى، المتلقي، اللغة، طريقة التفكير». لكن هذا المسطرة لأداة التصنيف والتقويم والتقييم لا تتصف بالثبات والمصداقية، لأن الأمر غالباً يتحكم فيه الاعتبار الشخصي، وهو اعتبار يتعلق بالعمر والثقافة والتعليم. وكل زمن لا يخلو «من تفاهة» سواء كان وصفها بالاستظراف أو الابتذال أو كما يحدد مؤشراتها ابن قتيبة «المناكير والغريب والأكاذيب من الحديث» التي تجذب الجمهور إلى القصاصين كمؤثرين في توجهات الجمهور، «ومن شأن العوام القعود عند القاص، «ما كان حديثه عجيباً، خارجاً عن فطرة العقول» - ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث – ص 255.. وهو ما يشير إليه جوستاف لوبون في سيكولوجية الجماهير «إن الجماهير غير ميالة كثيراً للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية، ولكنها مؤهلة جداً للانخراط في الممارسة»؛ أي سرعة الانجذاب والقبول والتقليد. قد تشيع التفاهة وفق مراتبها كما عند ابن قتيبة ضمن أقوى المجالات، وعلى سبيل المثال الشعر العباسي نجد فيه أبياتاً شعرية تنتمي إلى وصف «التفاهة»، ولذا لا نستغرب قول بشار بن برد في خادمته ربابة: ربابة ربة البيت تصب الخل في الزيت لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت لقد حدد أرسطو صفتين للقول الجاد بالعقلانية والمصداقية، وهو ما يعني أن تجاوز الكلام عن صفة من تلك الصفتين هو كلام غير جاد ويدخل في وصف التفاهة. لكن مقياس خطورة تلك التفاهة عندما تكون هي الغالبة وليست ظاهرة عابرة. إن الحكم على ما هو تافه وما هو دون ذلك يرتبط أولاً «بالقيمة» في مستواها البراغماتي؛ باعتبارها جذر التصنيف بين ما هو «تافه، وما هو غير تافه، فكلما زاد القبول على المحتوى ارتفعت قيمته، فمؤشر القيمة هنا هو «القبول» وليست جودة المحتوى، وهو ما أشار إليه ابن قتيبة في علاقة الجمهور مع القصاصين والإقبال على الاستماع إلى قصصهم رغم ما فيها ما يخالف فطرة العقل من منكر وغريب وكذب وخرافة. وإذا كان ابن قتيبة قد ربط تفاهة القول بالمنكر والغريب والخرافة، وجعل القبول مؤشر أثر، فلا يبتعد عنه في المضمون المتنبي الذي ربط العقل بكل ما هو غير تافه والجهل بكل ما هو تافه، ونسب للأول أثر الشقاء ونسب للثاني أثر النعيم. فهل يمكن التفريق بينهما - التافه وغير التافه - وفق مبدأ المتنبي «العقل والجهل»، فالعقل هو مصدر كل ما هو غير تافه، والجهل هو مصدر كل ما هو تافه على مذهب المتنبي، والغريب والخرافة مصدر كل تفاهة والصدق مصدر ما دونها على مذهب ابن قتيبة، وغير العقلاني والكذب هو مصدر التافه والعقلاني والصادق هو مصدر ما هو غير تافه على مذهب أرسطو؟. لكن ألا تنطوي هذه الاشتراطية في التفريق على حكم متسرع غير موضوعي؟. لأن العقل ليس بالضرورة هو ممثل الحكمة البحتة، بل هو مصدر كل «فعل صنعة»، ولو نظرنا للعقل من هذه الزاوية فهذا يعني أن التفاهة لها محمولها من العقل باعتبارها «صنعة في ذاتها» لها ما يميّزها من محتوى له خصوصيته التفكيرية، يختلف كل منا معه حسب قناعاته الفكرية والثقافة. كما أن الكذب والخرافة ليسا بالضرورة مؤشر تفاهة، فقيل قديماً «أعذب الشعر أكذبه»، وقد عدّ القرآن أصحابه وأتباعهم من الغاوين، فهل يعني أن الشعر ينتمي إلى التفاهة باعتبار نوع الأثر وطبيعة الأتباع؟. إن الخلاف حول «دلالة وقيمة أي مفهوم» تُحسب دوماً في مصلحة المفهوم الإشكالي.
مشاركة :