كثيرون ممن تابعوا الزيارة الأولى من نوعها التي قام بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى كوبا، اعتقدوا أنها تعد بمثابة زيارة تكفير عن الذنب، أو على الأقل أنها اعتراف بالخطأ، وأنها أيضاً اعتراف بالحقيقة، والحقيقة هي أن كوبا صمدت وانتصرت، وأن واشنطن باتت مضطرة للاعتراف بذلك، وأنها لم يعد أمامها من خيارات غير الاعتراف بالأمر الواقع والتعامل معه. هناك بُعدآخر، وهناك معنى آخر مختلف تماماً لهذه الزيارة. بُعديرى أن أوباما ذهب إلى عقر اليسار اللاتيني ليعلن إشارة بدء سقوط هذا اليسار ومعاقبته، والمعنى هو أن أوباما على دراية كاملة بكل ما يموج في دول أمريكا اللاتينية التي انقلبت على واشنطن في العقد الأخير، واقتربت أكثر من كوبا، واعتنقت الاشتراكية وتحولت يساراً، حتى إن كان وفق المفاهيم الخاصة لكل منها بعيداً عن الالتزام الحرفي بالنموذج الكوبي، كما أن المعنى الذي نقصده يتضمن أيضاً أن أوباما يعرف أكثر من غيره تلك الجهود الأمريكية الحثيثة التي قامت بها الأجهزة الأمريكية المعنية لاسترداد حديقتها الخلفية، واستعادتها مجدداً لتسير في ركب التبعية لواشنطن وأجهزتها المالية والأمنية. فزيارة أوباما لكوبا ترافقت مع هبوط حاد في منحنى الاندفاع اللاتيني نحو اليسار، وبعيداً عن واشنطن. فقد بدت معالم الضعف على اليسار في بوليفيا، وهزم هذا اليسار في الانتخابات البرلمانية في فنزويلا، بلد الزعيم هوغو شافيز، ونجح اليمين النيو- ليبرالي في الفوز برئاسة الأرجنتين، وقرر الرئيس الأكوادوري رافائيل كوريا عدم تجديد ترشيح نفسه لانتخابات 2017 المقبلة، لكن الأهم هو ما يحدث الآن في البرازيل، حيث تجلى السقوط المدوي للرئيسة العمالية ديلما روسيف من خلال البرلمان ومجلس الشيوخ. أبرز من أدرك هذه المعاني والأبعاد الأخرى لزيارة أوباما لكوبا هو ريتشارد هاس رئيس التخطيط السياسي في الخارجية الأمريكية الأسبق، والرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، رئيس تحرير مجلة فورين أفيرز الأمريكية الشهيرة، عندما بادر بالحديث عن الأخبار السارة التي تأتي من أمريكا اللاتينية لواشنطن، بدلاً من الأخبار السيئة التي تتدفق عليها من الشرق الأوسط الذي يحظى بمعظم الاهتمام الأمريكي. هاس تحدث بغبطة شديدة عن التحديات التي تتهدد الرئيسة اليسارية للبرازيل، وقبلها في فنزويلا، كما تحدث بافتخار عن التحولات التي تحدث الآن في الأرجنتين بعد وصول رئيس ليبرالي إلى السلطة هناك خلفاً للرئيسة اليسارية البارعة كريستينا كيرشنر، هو رجل الأعمال موريسيو ماكري. فقد تحدث هاس بإعجاب عن الخطوات الصعبة (ويقصد الإجراءات الانقلابية اليمينية) التي يقوم بها هذا الرئيس الجديد لاستعادة ثقة المجتمع الدولي، ما يعني أن ثقة المجتمع الدولي بأي نظام حكم لا تتحقق إلا بالقيام بمثل هذه الإجراءات، التي اعتبرها ريتشارد هاس أنها سوف تحد من التضخم، وتستعيد معدلات النمو المستدام. وكان هذا الرئيس الأرجنتيني اليميني الذي يفاخر به وبإجراءاته ريتشارد هاس، أعلن في مطلع يناير/كانون الثاني 2016 مجموعة من الإجراءات الارتدادية عن السياسات الاجتماعية لحكومة الرئيسة اليسارية كريستينا كيرشنر، منها خفض الضرائب المفروضة على كبار المزارعين والصناعيين بشكل كبير، ورفع الضوابط عن حركة رؤوس الأموال، وخفض قيمة العملة المحلية (البيزو) بواقع 30%، والسماح للتضخم بأن يرتفع بين ليلة وضحاها ب25%، ومنح سندات بقيمة ملياري دولار أمريكي للمضاربين والمصدرين الأرجنتينيين، والأخطر من ذلك استئناف التفاوض مع صناديق الإقراض الأمريكية كمقدمة لدفع فوائد أعلى من تلك التي رفضتها سابقاً حكومة الرئيسة كيرشنر، وأيضاً إنذار آلاف العمال لدى القطاع العام بإنهاء خدماتهم. ريتشارد هاس، تجاهل في نشوة فرحته بما يحدث في الأرجنتين والبرازيل ودول لاتينية أخرى، ما سبق أن كشفته وثائق موقع ويكيليكس من برقيات توثق طلب الرئيس الأرجنتيني الحالي موريسيو ماكري عام 2011 من السفارة الأمريكية في بوينس آيرس شن حملة ضد الرئيسة كريستينا كيرشنر لتشويه صورتها وحلفائها السياسيين لدى الرأي العام، كما لم يشر إلى الدور الأساسي الذي لعبه في الأرجنتين الصندوق الوطني للديمقراطية (NED)، الذي تضخ بواسطته واشنطن مئات ملايين الدولارات إلى المنظمات غير الحكومية، إحدى أهم الأدوات الناعمة، لزعزعة استقرار الدول. إقالة روسيف ومعها حزب العمال وزعامة قائد اليسار البرازيلي الرئيس السابق لولا داسيلفا، فرصة لواشنطن كي تتنفس الصعداء تطلعاً للتخلص من هذا اليسار الذي تحول إلى شوكة في حلق الهيمنة الأمريكية في دول أمريكا اللاتينية، خصوصاً اليسار البرازيلي، والدور الذي مثلته البرازيل في تقديم نموذج يساري وديمقراطي على أنقاض السقوط السوفييتي، الأمر الذي اعتبره الأمريكيون انتقاصاً من انتصارهم ضد التجربة السوفييتية وتحدياً لأبدية انتصار الرأسمالية. لذلك تعتبر معركة إسقاط روسيف ذروة المواجهة والانتقام الأمريكية من اليسار اللاتيني كله، ولكنه انتقام حتماً لن يكون خاتمة المطاف.
مشاركة :