بين زحام شباك التذاكر والتصادم وبكاء الأطفال بسبب الضجيج الذي تصدره السكة الحديدية، كُنت أركض خوفاً من أن يفوتني القطار، والصادم في الأمر أنني لم أنتبه لأي شيء بجانبي، لم أستمع إلى أي صراخ ولا حتى صوت احتكاك القطار بالسكة الحديدية. - عذراً هل يمكنني أن أحصل على تذكرة إلى ميونخ في الحال! موظفة شباك التذاكر: عذراً سيدتي، آخر تذكرة أخذها الرجل الذي رحل للتو. هرعت مُسرعة أبحث عن ذلك الرجل، ولكنني أضعته بين حشود الناس، جلستُ على المقعد المُقابل للسكة الحديدية، وقد تكالبت عليّ خيبات الأمل، بأنني لن أذهب لأخي الذي حرمتني منه السنون، ويفصل القدر بيني وبينه، والذي قد كبر بعيداً عني، ولم نتشاك لحظات الطفولة معاً، ولم نحظ بأعياد ميلاد متشاركة، ولم يكن بطلي الذي يحميني من المتنمرين في روضة الأطفال، ولم يفرح حينما تخرجت من الجامعة؛ أخي الذي قالوا إنهم رأونا وحدنا نبكي بين حُطام تلك السيارة، وإن والديّ كانا مستلقيين على الشارع تحت الشمس الحارقة وقد فارقا الحياة. فجأة، موظفة شباك التذاكر تأتي إليّ بعد أن أرجع أحد الركاب التذكرة لظروف طارئة. - عذراً سيدتي أما زِلت تُريدين التذكرة؟ - طبعاً فأنا بأمسّ الحاجةِ إليها. وانهمرت دموع الفرح فكانت كل خطوة أخطوها تسابق التي قبلها، وكأن الدنيا أصبحت بساطاً يطير في الفضاء الساشع اللامتناهي. أحسست بالاشتياق إلى أخي وأنا لم أرَ ملامح وجهه، اشتقت إلى رائحة أخي، رغم أنني لم أشتمها، لربما رائحة أمي وأبي تشابه رائحة أخي. في القطار.. ها أنا أودع ميونخ التي كانت جميع أحلامي تقودني إليها لأرى أخي حينما قالوا قد ذهب يستكمل دراسته في ألمانيا، شطبت ميونخ من لائحة الآمال وقد حلت محلها برلين، ها أنا في طريقي إلى برلين، أُردد في داخلي أرجوكِ يا برلين لا تخذليني، لا تتركي في نفسي خيباتِ أملٍ أُخرى... وتتداخل الأفكار في مخيلتي حتى استقررت على سؤال جعلني أفكر في التراجع عن البحث عن أخي: وهو، هل يفكر فيَّ أم أنا التي فقط أفكر فيه؟ لكنني استجمعت قواي في تلك اللحظة وعاهدت نفسي ألا أتخلى عما أبحث عنه، ذهبت في غفوةٍ عميقة حتى استيقظت على صوت صافرة القطار التي تشير إلى أننا قد وصلنا، أخذت حقيبتي وكنتُ أدفع الركاب للخروج لأشتم الهواء الذي يشتمه أخي، وكأن قلبي يقول لي: أخوك هنا. ها أنا أضع خطواتي الأولى في برلين ولا أعرف أي قصةٍ ستصادفني. مضت أيام، تحولت إلى أسابيع، أكملت شهرين وأنا أبحث بين تلك الوجوه عن رجل ذي شامةٍ كبيرة بارزة بجانبِ أنفه يدعى أحمد، هذا ما أخبرني به والداي اللذين تكفلا بحضانة أخي، غلبني اليأس وتوالت علي خيبات الأمل بأنني لن أجده، وقد حتم علي القدر ألا أراه في الدنيا. 25- يوليو- 2013 حملت حقائبي وأنا أعود أدراجي إلى البلاد وقد فقدت الأمل بأنني سأراه مجدداً. بينما كنت أمشي في الشارع وأنا أنتظر سيارة أُجرة تقلني إلى المطار كانت دموعي تتساقط لأنني لم أرَ أخي، صدمني رجلٌ طويل متوسط القامة، نظرت إلى وجهه ولكنني لم أدقق فيه كثيراً وقلت: - يا إلهي ما هذا التعجرف، انعطفت جانباً كي يذهب فأوقفني وهو يقول: أنا أعتذر، فأدركت أنه عربي الجنسية، حاولت الهروب بينما أنا أمشي وقد تأسفت على ما قلت، توقفت فجأة فكأن عقلي يقول لي تذكري وجهه ومن أول محاولة استرجاع لملامحه، رأيت الشامة وهي بجانب أنفه، استدرت مسرعة كي ألحق به وعندما رأيته هتفت بأعلى صوت (أحمد) توقف فجأة، استدار يميناً تارةً يساراً تارةً أخرى متعجباً فنظر لي وقال: - أناديتِني؟ وقفت أمامه وقد قمت بتذكيره بتاريخ الحادث وموقع الحادث وقد ترقرقت عيناه بالدموع وهو يجرني بين ذراعيه ويبكي ويقول: أختي. لا أعلم ما الذي حصل وقتها، لم أتذكر أننا وسط حشد من الناس توقفوا لينظروا إلينا ونحن نتعانق، والمضحك في الأمر أن بعضاً منهم كان يصفق لنا. تحملي لسنين غياب أخي عني وفقداني لوالدي علماني أن بعد الصبر يأتي الفرج، وأن الأمور الجميلة دوماً تأتي بعد السيئة، والحزن والفقدان هما اختبارٌ من الله يعلمنا قيمة الأشخاص من حولنا وأنه علينا التمــــسك بهم وعدم التخلي عنهم بسهولة. * كاتبة إماراتية تبلغ من العمر 18، أصدرت مجموعة يشبهك؟ من وزارة الثقافة.
مشاركة :