ثمة عبارة تنسب إلى المتظاهرين ضد عودة الاحتلال الفرنسي لسورية إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، بعدما طردت قوات فرنسا الحرة قوات فيشي وأعادت فرض سيطرتها الاستعمارية على البلاد. كان المتظاهرون يصيحون: «ديغول خبّر دولتك/ باريز مربط خيلنا». تغيرت الأيام، واستقلت سورية وعانت آلام النشوء والنمو كدولة وكأمة لستة عقود كاملة، ثم تضعضعت ودخلت مرحلة تمزق وهجرة جعلت أوروبا بالنسبة إلى بعضهم موئلاً ومقاماً وملجأً ومكان عمل. بعضهم حديث الهجرة شردته الحرب الأهلية العبثية المستعرة في وطنه فأتى إلى باريس لأنه عرفها أو يعرف أقرباء وأصدقاء مقيمين فيها، أو أنه كان من المئات القليلة من المحظوظين الذين قررت الحكومة الفرنسية منحهم حق اللجوء وامتيازاته، ولو أنها لم تمنح ذلك للآلاف المؤلفة القابعين في مخيمات اللجوء والانتظار المرير. وبعضهم قديم الهجرة، مستقر في عاصمة النور، يعيش ويعمل أو يبدع فيها، أو يتسكع في مقاهيها، أو يتنعم بثروته فيها، أو يحاول التقاط رزقه من الصفقات الكثيرة التي تعقد فيها مع أثرياء العرب الذين يبدو أن اهتمامهم بالمدينة وما يمكن أن تقدمه قد ازداد في السنوات الأخيرة على حساب لندن التي فقدت بعضاً من حظوتها. هذا المجتمع السوري المتناثر في أرجاء باريس لا يمثل المجتمع السوري الأكبر بالتأكيد. لكنه يحمل من صفاته الكثير، ويختزل في محتواه تركيبة المجتمع السوري الأكبر وبعضاً من طموحاته وأمانيه وآلامه وحسناته وسيئاته. وهو كذلك يعمّق بعضاً من الصورة النمطية عن السوري المنتشرة في الثقافة العربية، ويتحدى بعضها الآخر بما يفرزه من نماذج متنوعة من الأفراد الذين يتعاطون مع مأساتهم الشخصية ومأساة بلادهم العامة بطرق متنوعة وخلاقة في غالب الأحيان. من الملاحظ أولاً أنه على رغم الهجرة المأساوية التي يعاني منها السوريون بسبب تمزق وطنهم على أيدي حكامهم ومناوئيهم، فإن عدد من يشحذون منهم على طرقات باريس قليل جداً أو معدوم، على رغم أن مهنة الشحاذة في باريس منظمة ولها قواعدها ومراتعها وهيكليتها ومتعهدوها وربما مالكوها، وعلى رغم انتشار الشحاذة في المدينة انتشاراً مزعجاً ومخزياً في الآن نفسه. ومع أنني قابلت في الأشهر الثلاثة الأخيرة أسرة واحدة فقط واقفة بأبيها وأمها وأطفالها الثلاثة على باب محطة مترو ترفع يافطة كتب عليها «أسرة سورية محتاجة»، فإن كل من رأيتهم، رجالاً ونساء معهم أطفال، يشحذون على أحد أرصفة باريس كانوا يتكلمون لغة سلافية، والرأي السائد عنهم أنهم من «الروما» أو من كنا نسميهم الغجر. وهم منظمون وموزعون في كل أحياء باريس الغنية ويأتي من يلمهم في نهاية الليل ليعيد توزيعهم صباحاً. ولا سوريون بينهم أو بين الطبقات الأخرى من الذين يستجدون وهم ركّع على أبواب الكنائس أو غيرها. فلماذا فيما الحال المادية الصعبة التي نعرف أن مهاجرينا يعيشونها تزداد سوءاً؟! لا أدري تماماً ولو أنني أظن أن التكافل الاجتماعي الأسري يلعب دوراً في حماية المحتاجين، وكذلك فهلوية السوري العادي الذي يجد لنفسه عملاً إذا ما سنحت الفرصة، بغض النظر عن المحيط والصعوبات. وأظن أيضاً بأن المأساة السورية استدرّت عطفاً من الأوروبي العادي وبعض العرب في أوروبا الذين يمنحون المنظمات الخيرية لكي تساعد مشردي سورية بعض الشيء بما يقيهم العوز الشديد. أو هذا على الأقل الانطباع الذي يأخذه المرء من محاورة مشردي الحروب الأهلية الأخرى الذين أصبحوا، للسخرية، يحسدون السوريين على تشردهم «المريح». أما على النهاية الأخرى من معيار القدرة المادية، فهناك في باريس أثرياء سوريون مقيمون وآخرون يزورون بانتظام ولهم فيها بيوت وقصور. هؤلاء لا يختلفون كثيراً عن غيرهم من أثرياء العالم الذين لجأوا إلى باريس وغيرها من مدن الغرب الكبيرة التي تقدم لهم في الآن نفسه الأمان والأمن والرفاه والمتعة. لكنهم على عكس غالبية الأثرياء من بعض الدول الغنية جداً لا يتظاهرون بثرواتهم كثيراً، بل يحاولون إخفاءها عن العامة ولو أنهم يرفلون بشتى أنواع المتع في حياتهم الخاصة. وهم على العموم، للأسف، لا يستخدمون ثراءهم في دخول الحياة العامة في فرنسا أو في دعم الثقافة أو العمل الخيري، وهم بالتالي لا يتمتعون بأي حضور اجتماعي حقيقي خارج الدوائر المهتمة بالعالم العربي، ولا يوجد لهم وزن سياسي يعادل قوة ثرائهم في بلد إقامتهم الاختيارية. وهم كذلك، مع بعض الاستثناءات القليلة (هنا يبدو لي أن التعبير الذي يجب أن أستخدمه هو: «يا للعيب») لا يقومون بأي نشاط حقيقي وطويل النفس في تخفيف معاناة اللاجئين من بني جلدتهم أو في دعم مشاريع الثبات أو التعليم أو الصحة في سورية وفي مخيمات لجوء بائسيها. بل يفضلون «البقاء على الحياد»، كما يظنون، في التعامل مع مأساة بلادهم، وإن كانت لهم آراء شخصية تؤيد هذا الطرف أو ذاك. وبين الفقراء والأثرياء تقف غالبية سوريي بــاريــس: الطلاب والأســـاتــذة والمهنيون والفنانون واللاجئون الذين انتظموا في مهنة تأسيسهم. هؤلاء الأفراد يتوزعون على الأحياء الباريسية وفق خلفياتهم التعليمية والمهنية ويزداد تركّزهم في بعض هذه الأحياء وإن كانوا قطعاً لم يصلوا إلى أعداد العرب المغاربيين، الذين ما زالوا يمثلون صورة العربي في فرنسا بعجرها وبجرها، أو اللبنانيين الذين ما زالوا يحتكرون صورة الثقافة العربية في فرنسا من المطبخ إلى صالات العرض. وهم قد بدأوا مؤخراً يتعلمون محاسن الانتظام في جماعات وجمعيات سياسية وثقافية وخيرية تزيد من تأثيرهم ومن قوة صوت قضاياهم. وقد ساعدت الثورة السورية على نشوء العديد من هذه المنظمات التي تحاول التعريف بسورية أو دعم ثورتها أو التنبيه إلى مأساتها أو التركيز على تاريخها وثقافتها، وأصبح لبعضها منتديات واجتماعات دورية تجمع الأعضاء وغير الأعضاء وتتيح مجالات خصبة للتعارف والنقاش والتخطيط وأحياناً التنفيذ. وهذا هو في الحقيقة وجه سورية الباريسية الجديدة، صورة إيجابية على العموم تحمل في طياتها إرهاصات إمكانية تطور مجتمع سوري متماسك وصغير في هذا المهجر، مجتمع ربما أمكنه تجاوز التشقق والاقتتال والطائفية والفشل والإفشال مما يعاني منه بلد النشوء وتقديم المثال عما يمكن أن يكونه هذا المجتمع الأم والأمل بحصوله. * كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، M.I.T
مشاركة :