ديموقراطيات غير ليبرالية في وسط أوروبا

  • 5/18/2016
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

ما ينبغي أن يسمى انحرافاً في أوروبا الوسطى، وتخلياً عن القيم الديموقراطية، يصيب بلداناً مثل هنغاريا وبولندا وسلوفاكيا كانت مثلاً إيجابياً على الانتقال الاقتصادي والديموقراطي. وأنجزت هذه البلدان تلاقياً مدهشاً مع أوروبا الغربية، وأدركت الركب الأوروبي في سرعة غير متوقعة. وساهمت في الأمر، من غير شك، المساعدات التي أغدقت على شرق أوروبا ووسطها، مقدار ما ساهم الاحتذاء على النموذج الألماني. وهذه البلدان اختطت نهجاً أوروبياً قريباً من النهج البريطاني. وركن هذا النهج سياسياً هو الأمة، وركنه أمنياً هو الناتو، وبروكسيل ركنه الاقتصادي. ويلاحظ أن المرجع البريطاني أصابه الضعف منذ انخراط لندن في مناقشة الخروج من الاتحاد. وفي دوامة الأزمة الاقتصادية احتذت بلدان وسط أوروبا على ألمانيا، وشددت على صفتها الشمالية الأوروبية. وهي اليوم تنتسب إلى اوروبا الوسطى في صيغة تختلف عن صيغة ثمانينات القرن الماضي حين كان كبار كتابها يوجبون لها هوية «غير الكتلة الشرقية» المفترضة. فوصف الروائي التشيخي ميلان كونديرا هذه البلدان بأن سياستها تجعلها شرقية (أو ملحقة بروسيا السوفياتية)، وتنسبها ثقافتها إلى الغرب الأوروبي، بينما موضعها على الخريطة يعرفها بوسط أوروبا. وهذا التنازع هو في صلب «مأساة» هذه البلدان، على قول كونديرا («لو ديبا»، العدد 27، 1983). والنازع الآخر الذي ألهم معارضي بلدان وسط أوروبا في العهد السوفياتي هو برنامج حقوق الإنسان ومطاليب المجتمع المدني الديموقرطية ومحاورة دائرة العلانية الأوروبية المشتركة. وتولى فاتسلاف (فاكلاف) هافل التمثيل على النازع والبرنامج هذين قبل أن يتسلم الحكم في مرحلة الانتقال من الشيوعية إلى النظم الديموقراطية. وحمل نجاح هذا الانتقال على توطين مؤسسات أو هيئات دولة الحق (والقانون). وهذه المؤسسات لا تنفصل عن الأفق الأوروبي. وقاد الوعد بضم هذه البلدان إلى أوروبا التيارات والحركات السياسية الفاعلة إلى إرساء إجماع قوي على إنشاء أبنية سياسية وحقوقية تمهد الطريق للانضواء في الاتحاد الأوروبي. ويفترض هذا الثقة في المعايير، وفي المؤسسات القضائية المستقلة القائمة على تطبيقها والقادرة على التطبيق. ويتآكل هذا الإجماع منذ بعض الوقت. وتشهد الديموقراطية في بولندا وهنغاريا انحساراً أو ارتكاساً، ومراجعة لمعيار دولة الحق. فيطعن المراجعون في المحاكم أو المجالس الدستورية، وفي حياد الإدارات السياسي. وغالباً ما يتبع ذلك وضع اليد على الإعلام وهيئاته العامة. والنهج واحد في هنغاريا التي يحكمها فكتور أوربان وفي بولندا ياروسلاف كاشينسكي. ويتعاظم دور التيارات الشعبوية والقومية في بلدان أوروبية أخرى، لكن هذه التيارات تضطلع بالسلطة في أوروبا الوسطى. ودار الكلام من قبل على استثناء هنغاريا. وتطاول الاستثناء في مرحلة تالية إلى بولندا، وهي الدولة البارزة في المنطقة. وانضوت إلى الاستثناء سلوفاكيا، حيث يتولى الحكم روبرت فيكو، وهو شديد الشبه بأوربان: يساري، مع حليف قومي يميني. وفي كرواتيا تتولى السلطة حكومة قومية محافظة تعود حقيبة الثقافة فيها إلى وزير معجب بنظام الأوستاشي المؤيد النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، ومناهض للإعلام المستقل. وعلى شاكلة تشرشل الذي نبه في 1946 إلى إسدال ستار حديد من بحر البلطيق إلى البحر الأدرياتيكي، يجوز الكلام على ديموقراطية غير ليبرالية من البلطيق إلى الأدرياتيكي. ويسدل هذا الستار على بلدان تحوز عضوية الاتحاد الأوروبي، وتجمع ارتكاس الديموقراطية فيها إلى انقباض انعزليين وانكفائهم على الهوية القومية. وقد يكون هذا في مثابة انبعاث لنازع وسط أوروبي. لكن هذا النازع، هذه المرة، في خدمة هوية وحضارة أوروبيتين تهددهما روسيا شرقاً و «الجهادية» الإسلامية جنوباً. ولا شك في أن موجة الهجرة واللجوء ومسألة حصص اللاجئين صبتا في مصلحة فكتور أوربان بعد أن كانت استفتاءات الرأي تنبئ عن انهيار تأييده في أوائل 2015. والأرجح أن حزب ياروسلاف كاشينسكي ببولندا، «الحق والعدالة»، كان فاز في انتخابات خريف 2015 التشريعية في الأحوال كلها، لكنه هو كذلك يدين بفوزه بالغالبية المطلقة إلى أزمة المهاجرين. فالأزمة الاقتصادية هزت الثقة في المثل الأوروبي، وفي قدرته على تحسين مستوى المعيشة والحماية من مفاعيل العولمة وذيولها القاسية. وقلبت الأزمة المعايير رأساً على عقب، وحولت أوروبا إلى أداة العولمة الأولى، ومصدر إجراءات التقشف. وظاهرة أزمة الهجرة أدت إلى نظير الموقف من أوروبا. فانقلبت أوروبا المتحررة من الحدود والحواجز - وتقليص الحواجز هو مكسب ما بعد 1989 - مشكلة حادة حين أصاب الاضطراب الحدود الخارجية. وحل محل المثل الآمن والراسخ المزدهر الذي مثلت أوروبا عليه عاملا الفوضى والقلق. ووجدت هذه البلدان نفسها على خلاف مع تطور المثل الاجتماعي الأوروبي من وجهين: فالقيم الليبرالية والفردية عمّمت الزواج المثلي، وتبّنت المجتمعات الغربية بمعظمها تعدد الثقافات. ووجها المثل الاجتماعي المتقرح والفاشل، على ما ترى هذه البلدان، وَلّدا الضواحي المضطربة والإرهابيين الخارجين منها. والمجتمعات المتعددة الثقافات هي ثمرة الخطايا الاستعمارية التي ارتكبتها البلدان الغربية، والدمج عَرَض من أعراض العقدة المتخلفة عن الاستعمار. ويعتقد أهل بلدان وسط أوروبا أنهم عانوا استعمار الإمبراطورية السوفياتية، ولا يدينون في هذه الحال لبلدان المهاجرين بدَيْن عليهم تسديده، على خلاف بلدان غرب أوروبا. وكوسموبوليتية (عالمية أو كونية) هذه المجتمعات نشأت عن الإمبراطوريات المتعددة الثقافات وامتزاج شعوبها تحت عباء مشتركة. وروافد أوروبا الكثيرة نضبت شيئاً فشيئاً غداة الحرب العالمية الأولى، ومع استقرار دول – أمم ثلث سكانها هم من الأقليات. وغداة الحرب العالمية الثانية، نجم عن استئصال اليهود، وعن تهجير الألمان وتغيير رسم الحدود، استقرار بلدان متجانسة السكان. ولم تتعرض البلدان خلف الستار الحديد إلى موجات الهجرة التي تعرض لها الغرب في نصف القرن الأخير. وبينما غلبت كثرة الثقافات على أوروبا الغربية، غلب التجانس على بلدان وسط أوروبا. وحين اقترحت بروكسيل وأنغيلا مركل توزيع المهاجرين على بلدان الاتحاد، ثارت حفيظة وسط أوروبا على ما حملته على تهديد يصيب هويتها الوطنية والحضارة الأوروبية معاً. فذاكرة هنغاريا التاريخية لم تشفَ من جرح الاجتياح العثماني. ومع انفجار أزمة النازحين عادت حدود البلد الحاجز الذي يصد عن أوروبا اللاجئين السالكين الطريق العثماني. والحاجز لا يحمي الحضارة الأوروبية وحدها من جحافل النازحين، بل يحميها كذلك من الذين يريدون قسرها على استقبالهم، أي ألمانيا أنغيلا مركل. وهذه مفارقة أخرى: فهذه البلدان تبنت العقيدة الألمانية القومية – الثقافية في الأمة، ونقلتها نقلاً حرفياً على صعيد أوروبا، وذلك حين تبنّت ألمانيا العقيدة الأوروبية وركنها قيم حقوق الإنسان العمومية والكونية. ولا شك في أن أزمة الهجرة قوّت مجموعة فيزغراد ولحمتها المتراخية. فبلدان المجموعة الأربعة كانت تفتقر إلى سياسة متماسكة إن في المسألة الاقتصادية أم في قضية أوكرانيا. فالبولنديون يصلون عداءً شديداً روسيا بوتين، على خلاف الهنغاريين والسلوفاكيين. ورفضهم حصص المهاجرين وحّد سياستهم تجاه ما يرون إليه تهديداً لهويتهم. وموقف جمهورية تشيخيا أقرب إلى الاعتدال، على رغم شطحات رئيسها، ميلوش زيمان. لكن الحكومات تتشارك موقفاً واحداً من النازحين. وفكتور أوربان على يقين من أن أوروبا تسلم نفسها إلى التداعي إذا هي سارت على طريق مركل في شأن النازحين. ويرى أن الانتخابات النمسوية التي فاز فيها اليمين القومي المتشدد حجة تؤيد سياسته. ففيينا، بعد أن أيدت سياسة الأبواب المشرعة التي دعت إليها المستشارة الألمانية، أغلقت حدودها وفاوضت بلدان البلقان ودعتها إلى سد طرق الهجرة وقطعها. والنمسا جزء من نطاق وسط أوروبا، وانعطافها ضرب من التلاقي الإقليمي. والحق يقال أن انعطاف النمسا وجه من شعبوية بلدان جبال الألب، وتشترك فيه مع أمم غنية يوحدها رفض اقتسام جزء من عوائدها. ويجمع الشعبوي السويسري كريستوف بلوشير، والبافاريين المسيحيين، ورابطة الشمال بإيطاليا. وحين فاز اليمين المتطرف في الانتخابات النمسوية، عام 2000، قاطعت أوروبا النمسا وحاصرتها. وأيد فكتور أوربان المستشار ولفغانغ سوسيل. وتبلور محور بافاريا – النمسا – هنغاريا ساند أوربان حين تسلم السلطة في 2010، واستمال إليه شطراً راجحاً من الحزب الشعبي الأوروبي حين نددت المفوضية الأوروبية بإجراءات إنشاء الديموقراطية غير الليبرالية وتحفظت عنها.     * مستشار الرئيس التشيكوسلوفاكي فاتسلاف هافل سابقاً، مدير بحوث في معهد الدراسات السياسية (سيانس بو) بباريس، عن «لوموند» الفرنسية، 8 - 9/5/2016، إعداد منال نحاس

مشاركة :