مصر الجديدة ... ديموقراطية من دون ليبرالية

  • 5/30/2014
  • 00:00
  • 23
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: الورقية - دولي في مسيرتها الطويلة نحو الديموقراطية، يبدو أن مصر عانت فعلاً، وأنها ستعاني في المستقبل القريب، من ثقل الأثمان التي يتوجب دفعها عبوراً من التصور الإجرائي للديموقراطية إلى التصور الجوهري لها. لقد عانت سلفاً من المشروع الإخواني، الذي لم يكن، في أفضل الأحوال، أكثر من ديموقراطية إجرائية، ترفض الحرية كإطار مرجعي، وتهدر النزعة الفردية كأداة لتحرير وازدهار الشخصية الإنسانية، على النحو الذي تبدى في انتخابات الرئاسة العام 2012، كأوضح ما يكون. فالمرشح (الاحتياطي) لجماعة الإخوان، محمد مرسي، المفتقد عموماً للقبول، والذي لم يظهر كثيراً ولم يتحدث إلا نادراً، هو الذي اندفع فجأة إلى مقدم السباق الرئاسي بفعل تصويت تلقائي/ آلي سواء لقواعد الجماعة على قاعدة الأمر والطاعة، أو جمهورها البائس، فهو إذاً تصويت للجماعة التي يرأسها المرشد وليس المرشح الذي سيرأس مصر، وهنا بقي التصويت ديموقراطياً إذ احترم الإجراءات، ولكنه لم يعد حراً إذ لم يعكس تلك العلاقة الحميمة والمباشرة بين المرشح الذي يتكلم عن نفسه، والناخب الذي يتجه إلى شخص أو برنامج يعكس في النهاية رغباته وميوله، أي شخصيته المتفردة. وهكذا، فإن الصورة الضعيفة لـ «الرئيس محمد مرسي» التي تبدت ملامحها واضحة بمجرد انتخابه، بل واغترابه الشديد عن مؤسسات الدولة على نحو تمثل في رفض الأداء العلني للقسم أمام المحكمة الدستورية، وما تلى ذلك من وقائع وأحداث وشت برغبته في كسر البروتوكولات الرسمية للدولة المصرية، التي ظلت مرعية، ولو شكلياً، طوال عهود مصر الحديثة، إنما كانت باطنة في الطريقة التي انتخب بها. ويمكن الادعاء هنا أن مصر ستعاني مستقبلاً، من مظاهر ديموقراطية غير ليبرالية، لولاية رئاسية أو ربما ولايتين كاملتين، نتصورهما عصر انتقال حقيقي بين ماضٍ استبدادي سابق على 25 يناير، ومستقبل تحرري يلي ذلك العصر الانتقالي حال كان ناجحاً، وإلا تعثرت مصر أكثر ودخلت في دوامة تاريخية ليست هينة قد تنعكس في فشل سياسي مزمن، أو خروج ثوري متكرر يعوق بناء الدولة وتحديث المؤسسات الضامنة للحكم الرشيد والفعال، على النحو الذي حدث مرتين: الأولى ممثلة في حكم المجلس العسكري، بعد تنحي مبارك، والذي كان فشله كاملاً، فانتهى إلى تسليم مصر لحكم الإخوان، الذي انهار سريعاً أمام الخروج الكبير في الثلاثين من يونيو. والثانية ممثلة في الحكم التالي على سقوط مرسي حتى الآن، والذي جاء فشله جزئياً، إذ تمكن من وضع أساس دستوري لنظام سياسي جديد ستبدأ ملامحه في التشكل لتوّها بانتخاب الرئيس، وستستكمل بانتخاب البرلمان. ولكنه، في المقابل، لم يتمكن من وضع مصر على الطريق الصحيح اقتصادياً واجتماعياً، إذ شهدت تدهوراً متزايداً يكاد يضعها في خانة الأزمة الخانقة اقتصادياً، ويقربها من حال الانحطاط اجتماعياً، فمن دون مبالغة يمكن نسبة الكثير من سلوكيات المصريين على شتى الصعد إلى هذه الحالة، إذ فقد الناس الكثير من القيم سواء العصرية التي كانوا اكتسبوها، أو الأصيلة التي طالما امتازوا بها، كالتسامح والمسالمة والشهامة وجل القيم التقليدية الأخرى الموروثة من تاريخهم المديد. الأمر الذي جعل من نمط الحياة المصري، أقرب إلى حالة الطبيعة، وهي حالة لا بد من الخروج منها قبل الشروع ليس فقط في حكم ديموقراطي ليبرالي، بل وأيضاً في أي شكل للحكم المدني الحديث. وهكذا، فإن مهمة إعادة بناء نمط الحياة المصري اقتصادياً عبر مجتمع منتج، واجتماعياً عبر مجتمع متمدين يحترم القانون والتقاليد المرعية، وفي المجمل مجتمع جاد وفعال ليس مهترئاً ولا فوضوياً ولا كسولاً، ربما كانت المهمة العاجلة التي يتعين على الرئيس القادم النهوض بها. وهو أمر يمكن استشفافه من مجمل خطاب عبدالفتاح السيسي، الذي يتحدث عن ضرورة العمل الجاد، والتقشف في مواجهة الأزمات الكثيرة خصوصاً الطاقة، وكذلك عن استعادة الأخلاق الضائعة والانتماء المتراجع. وهو خطاب يتوجه به السيسي إلى فئات المجتمع كافة مطالباً إياهم باستعادة أدوارهم المفترض لهم أن يلعبوها، سواء كانوا فقراء أو رجال أعمال، رجالاً أو نساءً، شباباً أو كهولاً. وفي مقابل الأهمية الملحوظة التي يمنحها الرجل لتلك المهمة على أجندة اهتماماته، فإنه لا يمنح أهمية موازية للبنية الحزبية أو القوانين المتعلقة بحرية التعبير والتفكير، بل يبدي تسامحاً مع قانون التظاهر الحالي، ومع بعض مظاهر القمع الحالية على طريق استعادة هيبة الدولة وتكريس الاستقرار، ومواجهة الإرهاب، وحصار الإخوان. ولأن الكثير من قطاعات المجتمع التي تململت من حالات الثورة والاحتجاج طيلة السنوات الثلاث المنقضية، تبدي تجاوباً مع ذلك الخطاب إن عن شعور طبيعي لدى الغالبية في استعادة الاستقرار، وإن في توظيف مخطط لمخاوف الناس لدى القلة في استعادة مواقعهم القديمة بقوة الدولة، فإن النتيجة النهائية لذلك هي تحول فترة حكم السيسي المرجح، إلى مرحلة انتقال يمكن وصفها بـ «الجوهرية» قياساً إلى ما سبقها، فالأغلب أن ما سيجرى خلالها سيكون تمهيداً لما يأتي بعدها من حكم ديموقراطي حقيقي، إذا نجح الرجل في مشروعه التنموي، وفي إعادة تشغيل المجتمع المصري على النحو الذي يريد، وفي استعادة هيبة الدولة، ولكن من دون الجور على البناء الدستوري القائم. فهذا البناء هو القابلة العملية للانتقال الديموقراطي مستقبلاً، حينما يتخلص المجتمع من مخاوفه الأمنية، وتتحقق أهم مطالبه الاقتصادية بفعل الإنجازات المفترضة، وفي المقابل، يزداد طلبه على الحرية، وتنمو ثقته في عموم الطبقة السياسية التي لا يزال ينظر إليها بعدم اكتراث، فهنا فقط يكون ممكناً الخروج من فلك الديموقراطية الإجرائية التي طالما عرفتها مصر، ولا تزال، إلى ديموقراطية ليبرالية، تتألق فيها الذات الفردية، وينمو فيها الشعور بالثقة في تداول السلطة واختيار الحكام بوازع تحرري لا أمني. * كاتب مصري

مشاركة :