* ما من شكٍّ في أنّ ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة هو وحده الذي يشي تصريحاً بأنّ الأمّ مقدمّة في البر على الأب بحقوقٍ ثلاثةٍ مقابل حقٍّ واحد على حين أنّه ما ثَمَّ نص صريح، ظاهر الدلالة من آيةٍ أو حديثٍ يُمكنُ أنّ يعولَ عليه في تزكية حقّ الأم على الأب! الأمر الذي يتوكّد من خلاله: بأنّه ليسَ لِمن «وَهِم» بأنّ للأمِ من نصيب البرّ ثلاثة أضعافٍ مقابل حقّ واحد إلا ما جاء في حديث أبي هريرة «من أحق الناس بحسن صحابتي..» بيد أنّ للحديث فهماً، فقهاً آخر لم يتفطن إليه من نصروا بإطلاقٍ حقّ «الأم» على «الأب» وهو ما سيتضح تالياً. * إنّ مَن يتتبّع حديث أبي هريرة في ألفاظه كلها سواء ما كان منها في الصحيح أو في السنن يجد أنها بمجملها تعود إلى صحابيّ واحد يُقال له «معاوية بن خيدة القشيري» رضي الله عنه وهو راوي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. بل إنّ في جامع الترمذي كان الجزم متيقنا بأنّه هو «السائل». * وكما كان هو هديه صلى الله عليه وآله وسلم إذ يعلم من حالِ السائلِ ما لم نعلم فتأتي الإجابةُ وَفقَ مقتضى الحال التي عليها السائل حينذاك مما يستوجب نًصحاً خاصاً به ولِمن كان في مثل حاله.. ولقد عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حالَ ما كان عليه مَن صاغ سؤال «من أحق الناس بحسن صحابتي..؟» وهو الصحابي «معاوية بن خيدة القشيري» إذ لم يبرح وهو حديث عهد بإسلام ما كانت عليه الجاهليةُ قبلاً من شأن إزرائهم بحقّ الأم وتسامحهم تالياً بشأن حسن صُحبتها وذلك عطفاً على ما كان قد استقر في نفوسهم من الإجلال لـ «الأب» توكيداً لمعاني الافتخار بالذكور، رجولةً والحط من الأنوثة وقدرها! وكأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم -كما يُعبر ابن عاشور (أراد أن يُظهر للسائل الاهتمام بجانب الأم للحذر من التفريط في حقها.. فلا يقتضي الحديث إلا الاهتمام بها وأنها جديرة بالبر مثل الأب قلعاً لآثار الجاهلية من نفوس المسلمين.. ليؤكد ابن عاشور- فالأبوان في البر سواء كما تظافرت الآيات بهذا المعنى..). * الإمام القرافي في الفروق تعقّب العلماء الذين ذهبوا إلى جعل البر أربعةً: ثلاثةً منها حقّ للأم خالصة فيما حقٌّ واحدٌ يُصرف للأب وحسب!! إذ أورد القرافيُّ عليهم إشكالاتٍ وشكوكاً يوهن ما انتهوا إليه من اجتهادِ فهمٍ واستنباط.. ولمن قرأ القرافي في هذه المسألة يتبيّن له نزوعه إلى محاولة إرجاع هذا اللفظ النبوي إلى نوعٍ من المتشابه لا المحكم في حين أوّل الحديث بكونه يأتي في سياق إظهار التأكيد على حقّ الأم في البر عطفا على حال السائل الذي لربما عُرف عنه شيء من التقصير في حقّ أمه بخاصة (ولمن كان في مثل حال السائل)!! * يقطع الإمام مالك بالقول: إنّ الأب والأم يستويان في البر وليس لأحدهما على الآخر فضل بِرٍّ أو حسن صحبة وراح مِن ثَمّ يتعقّب قول «الليث بن سعد» الذي من جهته كان يرى أنّ للامِ ثلاثة أضعاف البر!! إذ وكّد مالكٌ في معرض تعقّبه لليث أنهما في البرّ سواء وإنما جاءت ألفاظ الحديث «من أحق الناس بحسن صحابتي» للتأكيد على البرّ بالأم لتهاون الأبناء عادة في برّ أمهاتهم أكثر من تهاونهم في برّ آبائهم (وهذا واقع مشاهد ولا يُمكن أن يُنكره أحد). وبهذا المعنى الذي ينتصر له مالك جاءت إجابته للسائل الذي قال له: إن أبي في السودان كتب إلىَّ أن أقدِم عليه ومنعتني أمي فقال له مالك: أطع أباك ولا تعصِ أمك. (أتمنى على من سيتعجّل لاحقاً ويصفني بالجهل والشذوذ جراء هذا الفهم أن يترفّق قليلاً ذلك أني مسبوق من أئمة كبار قدماء كمالك والقرافي ومحدثين كالطاهر بن عاشور ما يعني أن الوصف بالجهل والشذوذ سيطالهم أولاً). * أثناء التتبع لأطراف الحديث ألفيتُ طريقاً ثابتاً، صحيحاً لم يكرر حق الأم إلا مرتين ثنتين وذلك في رواية محمد بن فضيل بن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب فيما أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ما جعل بعضاً من العلماء المتقدمين يقصر حقّ الأم على الضعفين فحسب.! وإلى هذا يمكن أن ينشأ إشكالٌ يجعل الاستدلال بتكرار حقّ الأم محل نظر من حيث ما للأم من حقوق في مقابل ما للأب من حق..! وبهذا النحو تباينت إجابة الليث بن سعد وغيره فمرة يقول الضعف ثلاثا ومرة يقول اثنين. * لا يُسلّم لـ «المحاسبي» ولا لغيره كالقرطبي وابن بطال قولهم: إنّ تفضيل الأم على الأب فى البر والطاعة هو إجماع العلماء ولم يخالف في ذلك أحدٌ من الأكابر! فماذا عساه إذن أن يصنع بإمام دار الهجرة «مالك بن أنس»؟! وها هو القرافي حين ينتصر لرأي مالك يشير بطرفٍ خفيٍّ إلى أن ثمّة من يرى رأي مالك وهم كثر وفق عبارته ولم يُسمّهم ولعلّ ما منعهم من التصريح باجتهادهم هو حملهم الحديث برمّته على أنه من قبيل «المتشابه» الذي يسع تأويله الفهوم كلها وإن تباينت.. وعسى أن يكون أقربها للصواب ما كان منها أقرب إلى ما دلّ عليه القرآن.. وما كان منها قد دار حيث تدور كليّات الشريعة التي ما فتئت تجعل من حقي الوالدين في البر سواء سيما ما كانت الحاجة متحققة في أحدهما دون الآخر فيكون التقديم لأحدهما على الآخر بالنظر إلى عارض قد يعرض لأحدهما ليس إلا.! * ولمن يسأل عن قوله تعالى «ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين» أجيب بما يلي إيجازاً: * التعليل للوصاية بذكر ما كان من الأم فقط فيه دليلٌ يتفق مع الفهم المذكور بعاليه حيال الحديث ذلك أنّ «الجاهلية، وما توارثه الناس بعداً» من الغفلة عن حق الأم ناسب أن يؤكد على ما يكون من الأم تفطيناً لتساوي حقّها مع الرجل.! * ذو البصيرة لا يمكنه تفويت جمعهما بوصية واحدة ثم ختم الآية عقب التعليل الخاص بدور الأم بقوله تعالى «أن اشكر لي ولوالديك» وبهذا المعنى يمكن أن يقال نعت الأب بـ «الوالد» فيه دلالة بيّنة على المشترك فيما بينهما مهامَّ وحقوقاً. خاتمة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية «درجة الاستدلال أعلى من درجة التقليد ألف مرة، وكل من كان في الاستدلال والاستنباط أكثر، كان إيمانه أنور».
مشاركة :