كيف أصبحت غبيا

  • 5/21/2016
  • 00:00
  • 216
  • 0
  • 0
news-picture

في رواية "كيف أصبحت غبيا" لمارتن باج، يمكن للمرء أن ينظر بعمق كبير إلى الهاوية التي سقط فيها البشر أومن تبقى منهم، أولئك الذين يهتمون بأمور كثيرة، الذين يهتمون بالمسائل التي لا تهمهم في الأصل، والذين يريدون فهم أسباب هذا التشوه الكوني، إذ يعانون ويعلمون أن السعي إلى الفهم هو انتحار جماعي، وأن ما نسعى إلى فهمه غالبا ما نقتله أو يقتلنا. أنطوان، بطل الرواية الذي أمسك بزمام كل الأسئلة، ومضى إلى حيث يجد الأجوبة والكمال والحياة الحقيقية، إن كانت كلمة "حياة" تعني ما هي عليه بالمعنى الحرفي لها يقول: "لم أكن أمتلك سوى القوة على نبش العالم بعقلي، كان الذكاء السبيل الوحيد المتبقي لي". أنطوان الذي يسكن في الجزء الآخر من هذا العالم، هو ذاته سعيد، وماجد، ونورة، وأحمد وكل الأشباه الذين يعيشون أيضا في الطرف الآخر من العالم، هنا قريبا من نمط حياتنا التي نشكلها ونبددها ونتورط فيها ونثق بها، ونبتلعها يوما بعد آخر كيفما بدت وكيفما كانت. أنطوان، ومن يمثل هذه المنظومة في مجتمعاتنا، كان ينغص حياته بكل الأسئلة والمبادئ التي تتشابك في عقله، كان يتحقق من مصدر كل ما يمت إلى حياته بصلة، يتحقق من مصدر الألبسة التي يشتريها، كي لا يسهم في استغلال الأطفال العاملين في المصانع الآسيوية لشركة "نايك" وسواها من الشركات المتعددة الجنسيات. كان حريصا على أن يأكل من الطعام الذي لا يكون فيه انتهاك لحقوق الحيوان أو البيئة، فقد أعدَ لائحة بكل الشركات التي تستثمر في أنشطة مدانة أخلاقيا أو ملوثة أو في البلدان التي تسرّح العاملين حينما ترتفع أرباحها، كما لم يشتر طعاما كيميائيا ولا أغذية تحوي مواد حافظة أو ملونات أو مضادات الأكسدة، كان يفضل شراء منتوجات الزراعة البيولوجية، ليس لكونه بيولوجيا ونصيرا للسلام أو أممياَ، بل ببساطة فعل ما يمليه عليه ضميره، كان سلوكه في الحياة ثمرة أفكار أخلاقية، أكثر منها قناعات سياسية أو اقتصادية، كان لا يريد أن يمضي إلى كونه أداة في سطوة وتغول المجتمع الاستهلاكي، ولم يكن يعلم أنه سيصبح فعليا شهيدا للمجتمع الاستهلاكي. أنطوان، الذي هو نحن أو بعضنا أو قلة منا، رفض الوقوع في فخ التقنيات الجديدة التي ترغم المستهلك على التزود دوريا بالمنتجات الأحدث إصدارا كل مرة. إن للتمسَك بسلوك مستهلك مسؤول وإنساني ثمنا، وقد يكون الثمن فادحا على الأغلب، فالعالم حوله كله يلهث باتجاه الهاوية الاستهلاكية والمادية والتلوث والفتك بالطبيعة، وأكل كل ما فيها من حيوان وشجر، بدا وكأن الإنسان المعاصر وحش في ثياب أنيقة، وكائنا وحيدا وغريب الأطوار حين رفض كل هذا التغول الروحي، واللهاث المرضي نحو كل ما هو ملوث وسام، بل ومباركة كل من أحل هذه السُميّة في العالم، ليد خفية بارعة للوحش اليومي الذي يسممنا خلال هذه المنظومة الاستهلاكية. استيقظ أنطوان يوما غير مبال، إذ لم يعد يتأثر ببؤس العالم ولا الحروب ولا التفاوت الاجتماعي الذي كان بنفسه ضحية له، ولم يعد لديه حسَ ازدراء الرأسمالية ولا الاستهلاكية، ولم يعد مهما تلوث المياه بالكلور والنترات السامة. وليبرهن على اندماجه الجديد ذهب لتناول عشائه في أقرب ماكدونالدز، وتناول الكولا وجلس إلى أقرب طاولة صوفية اللون، وبدأ في تناول كميات الدهون والسكريات والمياه الكيميائية، معلنا بدء نمط حياته الجديد.

مشاركة :