رحلة المرء من اليقظة إلى التغافل والتغابي وصولاً إلى نكران الواقع الذي يبقيه غريباً عن ذاته ومجتمعه، موضوع الفرنسيّ مارتن باج في روايته «كيف أصبحتُ غبيّاً». (ترجمة حسين عمر، المركز الثقافي العربيّ، بيروت 2013). كأنّما يستعيد باج بيت المتنبّي «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم»، بحلّة روائيّة معاصرة، وبتشبيك وتحبيك واقعيّين يتلاءمان مع نمط الاستهلاك والتسليع في العالم الحديث، في الشرق والغرب سواء بسواء. محنة العقل هي التي تستدعي التوقّف لدى أنطوان؛ بطل الرواية الذي يعاني جرّاء لعنة الذكاء التي تقوده إلى الصدام مع كلّ ما يحيطه، وتدفعه إلى الابتعاد عن نفسه في محاولته التأقلم مع المستجدّات التي تفرض عليه التعامي والتطنيش والتجاهل. العنوان يشير إلى الإخبار عن الكيفيّة، وإن بدا بصيغة أقرب إلى السؤال. يستبطن الإحالة إلى الدوافع والمسبّبات، والظروف التي قادته إلى التوجّه نحو عالم الغباء. ذلك أنّ أنطوان يقرّر أن يكفّن دماغه بكفن الغباء أملاً بحياة هادئة بعض الشيء. وذلك بعد أن يؤكّد لنفسه بأنّ كلمة الذكاء هي التي تعبّر عن حماقات أُحسِن بناؤها وزيِّن لفظها، وأنّها كلمة مؤذية جدّاً ومن الأفضل للمرء أن يكون أحمقَ من أن يكون مثقّفاً. يعترف أنطوان أنّ الذكاء يجعل المرء تعيساً ومنعزلاً وفقيراً، يضطرّ للقبول بالحقيقة المرعبة بأنّ عقله هو سبب شقائه. يحاول أن يكتب الحجج التي ينبغي أن تفسّر هجره للفكر إلى عالم الجنون والغباء. يعلم أنّ رحلته وسط الغباء ستتحوّل إلى أنشودة في الذكاء. ستكون أوديسته الشخصيّة الصغيرة، بعد الكثير من المحن والمغامرات الخطيرة. لم يرضخ أنطوان لتقييده بين نعم ولا، بين التأييد والمعارضة، لأنّ ذلك بالنسبة إليه كان تحديداً لا يطاق لمسائل معقّدة. وقبل أن يتّخذ القرار بأن يغيّر حياته بطرق كثيرة، في المحطّة التي تسبق اختياره أن يصبح غبيّاً، يجرّب حلولاً أخرى ليذلّل صعوبات المشاركة في الحياة. يعاني من لعنة العقل. محبَط نفسيّاً. مرضه هو الإفراط في التفكير، يكتشف الصلة بين شقائه وتطرّفه العقليّ. التفكير يجرحه وسط تعطيل الآخرين للعقول أو العطب الفكريّ الذي يحيون في دائرته. يحاول أن ينجو بنفسه من الشقاء الذي يورّطه فيه ذكاؤه عبر الغباء. يصبح الغباء جسره إلى الاندماج في المجتمع. يقرّر أن يصبح غبيّاً ليستطيع الاستمرار في العيش. من أجل الاندماج في المجتمع، والانخراط في بحر الحياة الجديدة، يقرّر أن يصبح سكّيراً، بدا له أنّ السُّكْر هو الوسيلة لإزالة كلّ وهن تأمّليّ في فكره. يجد أنّ الناس يشفقون على السكّيرين ويتعاطفون مع المدمنين بطريقة ما، لكن لا أحد يشفق على الأذكياء أو يتعاطف مع غربتهم في واقعهم ومحيطهم. أن يكون سكّيراً سيكون ترقية اجتماعية بالمقارنة مع ذكائه...! يقول إنّه يريد أن يكون شبحاً تافهاً. سئِم من حرّيته في التفكير ومعارفه ووعيه الشيطانيّ. يفضّل مرضاً يبقى في حدود قارورة بدل مرض لا مادّي وكلّي القدرة لا يمكنه إطلاق اسم عليه. مع الكحول سيعرف سبب آلامه، لكن مع الذكاء ستكون الحقيقة صادمة وشاقّة لا طاقة له على احتمالها. يخبره أحد السكّيرين أنّ حالة السكّير لا تكون بالمتناول ببساطة، هناك نوع من الاصطفاء؛ ويطلب منه ألا يحقد عليه، يواسيه بقوله إنّه ينبغي أن يحاول الوصول إلى الغباء بطرق أخرى. لم يسعفه المستنقع الكحوليّ، فيقرّر أن ينتحر، يسير في درب الانتحار، يفشل في ذلك أيضاً. يعود إلى الحياة محبطاً، يجد صعوبة في التآلف مع المحيطين به، يتعاظم شعور الاغتراب لديه، يرتاد صفّاً لتعليم طرائق فضلى في الانتحار، ويجد فيه بعض التهدئة، لكنّه يسلك دربَ الانتقال إلى ضفّة الاستهلاك والتسليع متخفّفاً من الذكاء ومسايراً الآخرين في طريقة عيشهم وممارساتهم. يلقي بشهاداته وكفاءاته وكتبه جانباً، يعمل كسمسار، يجني أرباحاً طائلة، يكون التغابي سبيله إلى الثراء، تتغيّر معاملة المحيطين به معه، يتضخّم رصيده في البنك، يقبل على شراء السلع التي يحتاجها ولا يحتاجها، يقتني اللوحات الفنّيّة تماشياً مع الموضة السائدة، يغيّر السيّارات، ويمثّل كُرْهَ القراءة والكتاب، يحاول ألا يصدم نفسه بشيء يدعوه للتأمّل والتدبّر في نفسه أو في عالمه. أصدقاء أنطوان «آس، شارلوت، كليمانس وآخرون» لا يستطيعون إنقاذه، ربّما يقتنعون بمنطقه، وهو الذي لا يعدم وسائل الإقناع والتأثير، ويحاول تهدئة القلاقل بالبحث عن دروب الصمت والرضوخ والانسياق وراء المظاهر والانخداع بها والسير ضمن الممارسة القطيعيّة. يقرّ بطل الرواية أنّ الذكاء هو إخفاق في الارتقاء، وأنّه عاهة. يعتقد أنّ كون المرء ذكيّاً أسوأ من أن يكون أحمقَ، لأنّ الشخص الأحمق لا يفهم، في حين أن الذكيّ، وإن كان متواضعاً ووضيعاً، مرغم على الفهم. كما يذكر أنّ الذين يعتقدون أنّ للذكاء شيئاً من النبالة ليس لديهم ما يكفي ليدركوا أنّه ليس سوى لعنة. يعاني من عنصريّة ما منذ طفولته جرّاء ذكائه. يؤكّد أنّ العزلة هي بالمرصاد للذكيّ، وهي ملاذه الآمن بعيداً من الشهوة المجنونة للمال والسيطرة والنفوذ. ويظلّ أنطوان يظنّ أنّ السعادة تكمن في اللامبالاة طالما أنّ التفكير يجلب له التعاسة. يلوذ بالنقيض بحثاً عن راحة للحياة والعقل. وهيهات ذاك. يخيب ظنّه المتمثّل في أنّ الغباء هو العالم اللامتناهي الذي قد يقدّم لحياته فضاء متحرّراً من كلّ مقاومة. ثمّ حين يخسر أمواله وثروته، يكسب نفسه. تراه يطوف بالمدينة مع صديقته كليمانس، يعيد اكتشاف المحيط بوعي مختلف جديد. يبرز مارتن باج مفارقات التيه والاغتراب، يصوّر كيف أنّ طريق الغباء لا يكون بالمتيسّر والسهل، فالرحلة نحو الغباء تحتاج إلى كثير من الذكاء للوصول، وهذا ما آلم بطله، وجعله مثار حسد وشفقة في الوقت نفسه. يتجلّى الغباء تالياً في فقده كلّ الثروة التي حصّلها من السمسرة، وعودته إلى ذاته والتصالح مع ذكائه الذي يتسبّب له بالآلام، بعيداً من حماقاته التي توضع في خانة الغباء من قبل الآخرين. تأتي صرخة الاحتفاء بالغباء وهجاء الذكاء والعقل لدى باج على سبيل الإدانة والاستهجان، وإبراز سبل إقصاء الذكاء الذي قد يشكّل وبالاً على صاحبه، ولاسيّما حين يكون كشّافاً لعيوب الآخرين وغبائهم، إذ يغدو الذكيّ مختلفاً عن الركب والجمهور، ويظهر مناقضاً لأهوائهم، ما يضعه كدريئة للهزء والسخرية من قبلهم. القيود التي تحاصر المرء من كلّ النواحي هي التي يظهرها باج كوسائل مساعدة على تغريب المرء عن عالمه، ذلك أنّ المرء لا يختار طريقة عيشه ولا لغته وبلده وعصره وأذواقه، لا يختار حياته. وتكون دعوة بطله اليائسة نافذة نحو المجهول المؤلم، وذلك حين يقول: «الحرّيّة الوحيدة هي الموت؛ أن تكون حرّاً هو أن تموت». آفاق
مشاركة :