أكتب في هذه اللحظة حيث تُحلِّق ابنتي في جوف الطائرة المصرية المتجهة إلى برلين لتكملة دراستها هناك. ولقد كان بالإمكان تغيير الطائرة من «مصر للطيران» إلى «لوفتهانزا»، غير أنني وأنها رفضنا بإصرار ويقين، مُتمسِّكين بمصر تحت أي اسم وفي أي ظرف وفي كل حين. والحق أنه في غمرة محاولات الفتنة والعبث والتقسيم؛ برز الآن مَن يقول في هذا الزمن: ليت لنا وطن غير هذا الوطن.. وأبدًا أبدًا لن نكون. أُدرك أن مسألة السفر إلى أي مكان تخضع في الظروف العادية إلى عوامل متعددة منها ما هو اقتصادي -حيث السعر الأقل- ومنها ما هو شكلي أو نفسي -حيث نوعية الخطوط الناقلة-، ومنها ما هو وقتي -حيث خط سير الرحلة الأسرع والأسهل-، وهي عوامل قد تصبُّ كلها أو بعضها في صالح شركاتٍ أخرى، لكنك في الزمن الاستثنائي وفي الظرف الاستثنائي الذي تمر بهما مصر كلها وليس مصر للطيران وحدها، لا تملك إلا أن تتمسك بمصر الخطوط والأرض والأهل والسماء والوطن! أعود إلى مَن يُروِّجون أو يسعون أو يعملون لأن يقول المصريون ليت لنا وطن غير هذا الوطن فأقول: إنه العبث بل العفن! صحيح أن نفرًا من هؤلاء أو جلّهم يسمع كل مساء مَن يُردِّد مصطلحات تدعو إلى «الحرق بالجاز»، وإلى الإعدام على المشاع، وإلى الذبح بلا رحمة... وغيرها من مصطلحات باتت شبه ثابتة في بعض البرامج والقنوات! وصحيح أن بعض هؤلاء بل كلهم يقرأ كل صباح مفردات تصف أبناءهم أو أشقاءهم أو أصدقاءهم في البيت الواحد والشارع الواحد والحي الواحد والقرية الواحدة والمدينة الواحدة والوطن الواحد والشعب الواحد بأنهم «الخونة» أو «العملاء» أو «المأجورون»... وغير ذلك من مفردات أصبحت مقرراً ثابتاً في بعض الصحف والمجلات! كل ذلك صحيح ويحدث أكثر منه دونما رادع ودونما إطفاء، لكن ذلك لا يمكن أن يكون سبباً لأن يتمنَّى المرء للوطن الضياع والفناء! إنه الغباء! غباء مَن تسبَّبوا ويَتسبَّبون كل صباح ومساء في مزيد من الفرقة ومزيد من القسمة ومزيد من الفتنة بين أبناء شعب واحد، كان وما يزال من أطيب وأجمل شعوب العالم وأكثرهم تسامحاً وصفاءً! إنه الحمق الذي سمح ويسمح بأن تكون لغة الخطاب أو التحاور بين أبناء شعب واحد ووطن واحد على هذا النحو بل على هذا الدم! الذين رقصوا للحرق أو للذبح خاسرون! والذين يشمتون في أي مصيبة لغيرهم من أبناء شعبهم ووطنهم خاسرون! والذين يدعون أنهم يحبون مصر على طريقتهم المريضة واهمون أو كاذبون! والذين يتصورون بخطابهم الرديء ومصطلحاتهم الفجّة ومفرداتهم المريضة أنهم يدافعون عن الوطن نفعيون استغلاليون! أخلصوا النية في الدعاء لمصر وفي الدفاع عن مصر وفي التعبير عن الخوف عليها.. دعكم من هذا الخطاب الساقط الذي سيظل الأسوأ في تاريخ مصر، والأسوأ من حادث الطائرة الساقطة! إن سقوط طائرة أو اثنتين لا يُنهي وطن ولا يفني أمة، فكم من دولٍ وشعوب سقطت لها طائرات، وغرقت لها سفن، واحترقت فيها قطارات، ونهضت ومضت فوق المحن! لكن المشكلة في مصر الآن وبفعل هؤلاء المارقين باتت تستفحل مع سقوط طائرة أو اصطدام قطار، حيث تقام الليالي الفضائية لإذكاء مزيد من الفتنة! ويا أيها المخلصون انتبهوا! إن الصندوق الأسود قد يفك لغز الطائرة، فماذا عن الصناديق السوداء الكامنة في نفوس البعض؟!. مَن يفتح الصندوق الأسود للمتربصين وللانتهازيين، وللساعين بدأب لأن تُصبح مصر شعبين، أحدهما أو كلاهما يتمنَّى الموت للآخر؟!. sherif.kandil@al-madina.com
مشاركة :