منذ تبنت مؤسسة الدولة في العالم الإسلامي تحديث المؤسسة الطبية في أوائل القرن التاسع عشر، كانت هناك وجهتا نظرٍ حولها: الأولى تروج لها الدولة ومن ورائها نخبتها المثقفة، وتتلخص في أنه لم يعد ممكناً الإبقاء على المنظومة الطبية التقليدية مع إخفاقاتها التي يجسدها توالي الأوبئة وتوطن الأمراض وارتفاع معدلات وفيات الأطفال وانخفاض السكان، غير أن سبباً أكثرَ جوهريةً كان يدفع الدولة صوب التحديث الطبي، وهو تشابكه مع التحديث العسكري، ففي مصر مثلاً كان التحديث الطبي شرطاً أولياً لنجاح عملية تحديث الجيش، فقد هدد الطاعون جيش محمد علي الوليد وقضى على عدد من خيرة رجاله وقواده، ومنهم ابنه طوسون، الذي أخضع الحجاز، كما حرمه ارتفاع معدل وفيات الأطفال من الموارد البشرية اللازمة لزيادة عدد أفراده. الثانية كانت تمثل القطاعات الشعبية التي نفرت من تلك السياسة التحديثية المفروضة فرضاً وحاولوا مقاومتها مدفوعين بالنفور الاعتيادي من الغرب ومنتجه الحضاري، وتوهم تعارض السياسات الطبية مع مفهوم القضاء والقدر، وتحدي بعضها البنيةَ العقدية، فالتشريح وحرق جثث المتوفين بالطاعون في الحجر الصحي تمس فكرة قدسية الجسد الإنساني بعد وفاته. لقد بدت الحاجة ملحة من منظور الدولة لتفكيك المقاومة التي قادتها عناصر إسلامية حرمت السياسات الطبية الحديثة عبر فتاوى ورسائل دينية، وهنا يبرز العمل الفريد المنسوب إلى الإصلاحي الجزائري حمدان خوجة، والمعنون باسم «إتحاف المتقين والأدباء بمباحث الاحتراز عن الوباء»، الصادر في إسطنبول باللغتين العربية والتركية معاً عام 1836م، والذي أهداه إلى السلطان العثماني محمود الثاني. يقع الكتاب في مقدمة وخاتمة وثلاثة فصول، ويناقش قضية الأمراض والأوبئة في العالم الإسلامي، لكنه يردها إلى إشكالية التردي الحضاري التي لا سبيل إلى تجاوزها إلا بالاقتباس عن الغرب، ويكتسب الكتاب أهميته من اعتبارين: الأول إتيانه على الأبعاد الاجتماعية للتحديث بذكر موقف القطاعات الشعبية المناهضة لسياسة التحديث الطبي، وهي مسألة جد نادرة في مؤلفات الإصلاحيين الأوائل. والثاني معالجته مشكل الإصلاح والنهوض على نحو مركب، فبينما اعتبر الإصلاحيون المعاصرون أن معادلة النهوض تتحقق عبر إرادة الحاكم المسلم وإعادة مواءمة المنتج الغربي ليتلاءم مع البيئة الإسلامية، فإن ابن خوجة يضيف إليها بعداً ثالثاً هو ضرورة القضاء على معارضة المتعصبين الإسلاميين الرافضين للإصلاحات على النسق الغربي، ولذلك خصص الجزء الأكبر من كتابه لتفكيك طروحاتهم من الناحيتين الشرعية والمنطقية. وقدم ابن خوجة رؤية منفتحة، فقد كان ممن قبلوا التعاون مع الفرنسيين بعد دخولهم الجزائر وعُين عضواً بلدياً، واختلافه معهم حول سياستهم لم يمنعه من التصريح بأنهم أدخلوا بعض الإصلاحات الضرورية، مثل نظام الكورنتينة الذي قضى على الوباء الذي استمر فيها عشرين عاماً. وقد انعكس هذا في كتابه، حيث استخدم مصطلحاً ثابتاً لوصف الآخر هو «الفرنج»، وابتعد من المصطلحات ذات الحمولة الأيديولوجية والعقدية، مثل «العدو» و «الكفار»، التي كانت شائعة في عصره، وهو لا يخفي إعجابه بالآخر وحضارته في مواضع عديدة من الكتاب. ودواعي إعجابه بالآخر تكمن أيضاً في تقدمه العلمي، الذي تطرق إليه بضع مرات في كتابه، فأثنى على روح البحث العلمي المؤسسة على التجربة والاستقراء، لا على الافتراضات والتوهمات غير المثبتة، وقارن هذه الحالة العلمية بمثيلاتها الإسلامية، وتوصل إلى أن الغربيين مهروا في الطب والعلوم الطبيعية والصناعية والرياضية حتى أضحت علوماً غربية خالصة، على حين أهمل المسلمون أمرها وانصرفوا نحو العلوم الدينية والأدبية فانحطت في ديارهم، وليس هناك من سبيل لتجاوز الانحطاط إلا باقتباس علوم الغرب ومعارفه، غير أنه لا يقصرها على الطب ولا على المنتج المادي الغربي دون المنتج الفكري؛ وإنما يدعو إلى الاقتباس مطلقاً دون قيد، اللهم إلا قيد المساس بالثوابت الإسلامية، ومن هذا رفضه لتحريق جثث المتوفين بالطاعون كما تقضي إجراءات الكورنتينة الغربية، لكنه ما لبث أن ضيق هذا القيد فعلياً، بتأكيده أن العلوم الغربية هي علوم دنيوية لا تعلق لها بالآخرة، بالتالي تدخل ضمن دائرة المباحات الإسلامية وليس هناك ما يحظر اقتباسها شرعاً. ومن القضايا التعصب الديني، إذ يحمل الكتاب على من سماهم «المتعصبين» و «الجهال» و «ضعاف العقول»، الذين يجحدون التفوق الغربي ويعوقون الإصلاح باعتقادهم أن كل ما يفعله الكفار أو يخترعونه هو حرام أو كفر لا ينبغي للمسلم أن يتابعهم فيه، ومن هذا المنطلق كفّروا الداعين إلى إدخال الكورنتينة ديار الإسلام، وهذا ما دعا حمدان خوجة لأن يصفهم بالجهل المركب، فهم يجهلون حقيقة علوم الغرب التي هي علوم دنيوية لا مجال فيها للاعتقاد الغيبي وثبتت صحتها بالتجربة ويجوز للمسلمين اقتباسها إن ترتب عليها المصلحة، ويجهلون حقائق الشريعة ويجرؤون على استخراج الأحكام الشرعية من الأحاديث الموضوعة، ويتغالون في دين الله، لأن المقرر أنه إذا كان في واقعة تسعة وتسعون قولاً يقتضي التكفير وقول واحد يقتضي عدم التكفير فالفتوى عليه دونها. ويأتي الكتاب كذلك على قضية علاقة ولاة الأمر بمسألة الإصلاح، ويستوقفنا أنه يعد العلاقة المفترضة بين السلطان وولاة الأمر بمثابة علاقة الأب المطاع مع أطفاله وأهل بيته، وهو أمر يستغرب صدوره من إصلاحي مثله طاف بالبلاد الأوروبية بضع سنين ووقف على علاقة الحكام بالمحكومين، حتى كان من دواعي امتداحه للكورنتينة مبدأ المساواة، حيث يتساوى بداخلها الحاكم والمحكوم. وامتداداً لتلك الرؤية التي تعد ولاة الأمر آباء راشدين والرعية أطفالاً قاصرين، يفترض حمدان خوجة أن أمر الإصلاح وإدخال التحديثات الغربية منوط بولاة الأمر ولا تعلق للرعية به، فعلى ولاة الأمر -كما يقول- المبادرة بإصلاح ما يدخل الضرر على من هم تحت تصرفهم، وعليهم إنفاذ التحديث وتجاهل الاعتراضات وحمل الرعية حملاً على الإصلاح بتغيير الرسوم والعادات التي لم يأمر الشرع بالتزامها إذا كان في تغييرها جلب للمصلحة ودفع للضرر، وهو ما يُظهر أنه كرجل إصلاح لم يكن معنياً بمسألة ترقية الرعية وتثقيفها وإرشادها إلى ضرورات الإصلاح بدلاً من حملها عليه. نستطيع أن نخلص من دعوة حمدان خوجة، إلى أن التحديث في العالم الإسلامي كان مطلباً ملحاً للدولة ونخبتها المثقفة، لكنه لم يكن قط مطلباً شعبياً في أي من مراحله المتعثرة.
مشاركة :