يُقال الكثير عن ابتلاع زعيم التيار الصدري، مقتـدى الصدر، «التيارَ المدني»، ما يثير اشكالية تصدر زعيم ديني لحراك شعبي مدني يُفترض أن يؤدي، في حال نجاحه، الى انحسار دور الدين المذهبي في السياسة. تتعمق هذه الاشكالية عند الأخذ بالاعتبار تعارض هذا الانحسار مع القيم الأساسية للتيار الصدري التي تعتبر السياسة امتداداً للدين. لذلك يعتبر كثيرون من المدنيين المتحفظين على التقاء المصالح بين الصدريين والمدنيين أن الأسئلة في شأن الصدر «الشخص» أهم من الافعال التي تنتج عن التقاء المصالح هذا، على رغم أن هذه الأسئلة مشروعة وتحتاج أجوبة منصفة. فجعلها مركزية في الحكم على هذا الحراك يقودنا الى الفخ الذهني العراقي المعتاد في شأن الاستغراق في النيات الفردية على حساب الافعال الجماعية ونتائجها المفترضة. تاريخياً، كانت وظيفة مثل هذا الاستغراق عراقياً تبرير التمترس حول الاشخاص، سلباً او ايجاباً، واهمال الوقائع بمساراتها المحتملة وتعطيل المساهمة في دفعها في الاتجاهات الصائبة. انه جزء من تقليد عراقي سيئ يرى أن الأشخاص أهم وأكبر من الأفعال وانه لا سبيل للقبول بالأفعال من دون «المصادقة» على الأول، وكأن للاشخاص سلطة حاكمة على الأفعال التاريخية والصيرورات الاجتماعية التي تحركها. لم يصنع الصدر الغضب الواسع والعميق الذي تشعره غالبية العراقيين تجاه الطبقة السياسية الحالية التي تسببت ادارتها الكارثية للدولة بمختلف الأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية والاجتماعية في البلد. لقد تشكل هذا الغضب بطيئاً على مدى الـ13 عاماً من الفرص التي أضاعتها بحمق لافت هذه الطبقة. لم تعد جرعات التخدير الطائفي والتخويف من الآخر العراقي التي برعت في ضخها هذه الطبقة كافية لتأجيل بروز هذا الغضب او احتوائه. كل ما فعله الصدر هو انه أحس بهذا الغضب وأجاد استثماره سياسياً وتوجيهه شعبياً ليصنع الأزمة الأولى الكبرى المفيدة في البلد منذ 2003: إجبار الطبقة السياسية العراقية على مواجهة أخطائها وخطاياها تحت ضغط احتجاج شعبي غاضب وغير متسامح. إنها براعة التوقيت التي تمتع بها الصدر هذه المرة، تلك البراعة التي فاتته في مرات سابقة عندما دعا أنصاره الى احتجاجات كبرى في مناسبات شتى من دون استجابة واسعة منهم. ثمة من يستسلم للاغراء الخادع الذي تنطوي عليـــه قراءة نمطية واستسهالية للصدر ترى فيه زعيماً اقطاعياً دينياً يأمر «الاتباع» فينفذ هؤلاء طائعين من دون تفكير. بعضٌ من جمهور الصدر ينتمي الى هذا النمط من الولاء، لكنه محدوداً عددياً وعاجزاً عن ان يصنـــع حدثاً كبيراً كحدث الاحتجاج الحالي. لقد قادت الخيبة من السياسة وتردي الخدمات والأمن وغياب الفرص الاقتصادية التي يعيشها بمرارة الجمهور الصدري الى استماع هذا الأخير لدعوات زعيمه الدينية بالخروج الى الشارع احتجاجاً. في آخر المطاف، لم تأتِ الدعوات الدينية الشيعية الناجحة تاريخياً في تعبئة الشارع وتحريضه على الفعل منفصلة عن مزاج هذا الشارع وهمومه، بل كانت استجابة له في سعيها إلى قيادته وليس استباقه او مفاجأته بما هو خارج عن مزاجه السائد. وعلـــى مدى المئة وخمسين عاماً الماضية التــــي شهدت بروز الفتوى كسلاح تعبئة شعبي بيد الزعامــــات الدينية الشيعية، استندت الفتاوى الناجـــحة في تعبئة الجمهور على هذا الارتباط بين المـــزاج العام والتوظيف البارع له عبر الفتوى من أجـــل هدف عام. صحيح أن الصدر لم يستخدم الفتــوى في الحراك الحالي لأن درجته الدينية لا تسمح له بذلك، لكن استجابة جمهوره لدعواته الدينية لا تختلف عن استجابة الجمهور الشيعي التقليدي لفتاوى الزعماء الدينيين المؤهلين لإصدار الفتاوى. لم يكن الصدر أبداً زعيماً سياسياً يرتدي عمامة رجل الدين، بل كان زعيماً دينياً يمارس السياسة عبر لحظات ينتقيها لتأكيد حضوره الديني فيها، اذ يفصح خطابه الديني في تناوله للسياسة، لغةً وأفكاراً، عن نوع الصلة التي يريدها مع السياسة: التأثير فيها وليس امتهانها. وبعكس السيد عمار الحكيم، السياسي المعمم المستغرق في تياره السياسي، احتفظ الصدر بمسافة ذكية عن السياسة وتياره الصدري المُمثل فيها مؤسساتياً. لم يصبح امتداداً تلقائياً له ولم يتماهَ فيه، على رغم دعمه المضمر له، ساعياً للنأي بنفسه عن خطاياه، ناقداً له ولها حيناً وساعياً الى تصحيحه وتصحيحها حيناً آخر، من دون نجاح واضح. يسّرت هذه المسافة النقدية للصدر الاحتفاظ باستقلاله السياسي وقدرته على مفاجأة الجميع، وجعلت تياره يعاني في سعيه للحاق بزعيمه. لكنها في ذات الوقت منحته صدقية كرجل دين يتعفف عن خطايا السياسة، حتى على رغم ممارسته لها احياناً، في نظر جمهور شيعي عريض محافظ تتراوح مشاعره بين الود والولاء لعائلة الصدر الدينية. من هنا كانت قدرة الصدر على لعب دور محوري في حركة الاحتجاج الشعبي الحالية. لم يبتلع الصدر التيار المدني. هو فقط أظهر حجم ضآلته العددية وبالتالي «أنقذه» من عجزه عن التأثير الحاسم في السياسة، عبر تبنيه فكرة جوهرية وصحيحة روّج لها التيار المدني كثيراً هي تفكيك المحاصصة. لكن التيار لم يستطع أن يضعها على طاولة البحث السياسي الجاد بسبب ضعف امتداده الشعبي. وثمة خطر في تعريف ما يجري على أساس هوية اللاعبين (صدريين، مدنيين، حكوميين، برلمانيين)، ففي خضم هذه التعريفات تتراجع أهمية القضايا الجوهرية المثارة بشدة، كالمحاصصة وجدوى العملية السياسية والفساد. ولولا تبني الصدر لبعض افكار التيار المدني، اياً تكن اسبابه لهذا التبني، ما كنا سنشهد هذا المخاض السياسي والشعبي الذي يثير للمرة الأولى الاسئلة الصحيحة في شأن مستقبل البلد وطريقة ادارته. قبل أشهر كانت أسئلة بخصوص «الحشد الشعبي» و«هـزيمة داعش» تهيمن على جدالات العراقيين وتقسمهم، لكنها تتراجع اليوم لمصلحة اسئلة اخرى أعمق وأهم، اسئلة توحدهم، بخصوص تفكيك نظام المحاصصة السائد في إطار صراع علني وضار بين الأنصار العلنيين والسريين للمحاصصة (معظم الطبقة السياسية الحالية) وخصومها من الصدريين والمدنيين وعراقيين كثيرين صامتين لكنهم متعاطفون مع المعسكر الثاني. وثمة اسئلة على الصدريين ان يجيبوا عنها مستقبلاً بخصوص هويتهم السياسية ومقدار ارتباطها بالاسلام السياسي المذهبي، لكن حتى الآن يبدو الصدر ناجحاً في تحييد هذا السؤال المهم لمصلحة اهداف الحراك الذي يقوده. مشهد معقد ومقلق بالتأكيد، لكنه لا يخلو من أمل. لا يوجد حراك شعبي مؤثر لا تختلط فيه الأخطار بالآمال، فهذه قصة كل الحراكات الشعبية الكبرى عبر التاريخ، والحراك العراقي اليوم لا يختلف عنها. * كاتب عراقي
مشاركة :