تواصل الروائية بدرية البشر تركيزها على قضايا المرأة في أعمالها السردية؛ وهي في روايتها (سر الزعفرانة) تعيد صياغة العالم عبر منظومة الأمومة، وهي منظومة اجتماعية مقدسة؛ تؤسس لها بصورة تخالف نمطيتها السائدة، وضمن هذا المدخل تتم قراءة الأمومة دون وضع المرأة في علاقة ثنائية تناظرية مع الرجل وإن كان الصراع بين الذكورة والأنوثة مضمرًا، إلا أن صراع الأمومة يتعاطى مع المحيط الاجتماعي الأنثوي، ولاينفتح على المجتمع الذكوري إلا في نطاق ضيق جدًا، إذ تختفي السلطة الذكورية الممثلة في الآباء والإخوة والشيوخ بالموت أو الرحلة للعمل أو الدراسة، وتحل محلها سلطة الأمومة التي تتماهى مع سلطة الرجل في المحافظة على المعايير الاجتماعية و القيمية، وبالموازنة الكمية فإن عدد الأمهات يزيد على عدد الآباء، ومع القلة يختفي الدور والوظيفة في مجتمع تمثل فيه الأمومة شكلًا اجتماعيًا مقدسًا. وتكشف الرواية عن تمكين الأمومة وتعميق دورها من خلال مستويين: المستوى الأول: وهي الصورة النمطية للأمومة البيولوجية المختزلة في الرحم وقدرته على الإنجاب، حيث تكمل خصوبته سلطتها الجسدية باكتمال الهوية الأنثوية. المستوى الثاني: الأمومة بوصفها منظومة قيمية أخلاقية واجتماعية متكاملة وتستمد سلطتها من وظائفها وأدوارها ومسؤوليتها. ومن هذه البوابة تلج بدرية البشر إلى إشكالية الأمومة البيولوجية والأمومة الاجتماعية بوصفها نظامًا أقوى؛ بما تمتلكه من سلطة الإنتاج والرعاية والإشراف؛ حيث يعنى السرد بالكشف عن دور الأمومة «القوة الغريزية» في المجتمع العربي، ودور المرأة في جعله مفتاحًا من مفاتيح الخروج إلى الحرية. وتتمثل الأمومة في المستوى الأول في شخصيتي (نادرة) و(جليلة)، حيث تبحث نادرة عن أسباب الإنجاب التي تثبت في منتهى كل شهر فشلها، سعيًا منها لامتلاك قلب زوجها شجاع، والذي أدركت أن حبه لها قد انتهى بعد أن ثبت عقمها، ففقد جمالها وشبابها سلطته على زوجها، فعاد إلى زوجته رضوى ليس حبًا وإنما لتبحث له عن زوجة جديدة يستطيع جسدها حمل طفل وإنجابه، وتتبدل الأدوار التي كان فيها شجاع تابعًا لها قبل زواجه منها، مكررًا طلب يدها رغم رفض والدها، وتحوّلها تابعة له للاستئثار بقلبه من بوابة الأمومة التي لم تكن خيارها الشخصي، أو إشباعًا منها لغريزتها، لينتهي بها الأمر إلى الموت برصاص ابنه في نهاية مشبوهة، بعد محاولتها إقصاء صديقتها نفلة من القرية وحبسها في مكان مهجور، بعد أن عرفت نية زوجها في الزواج منها. ويحدث مثل هذا مع جليلة أخت هاشم زوج نفلة، التي ظلت تنظر إلى الأمومة بوصفها هدفًا وليست وسيلة، تسعى من خلال امتلاكها لتحقيق القوة وفرض السلطة العاطفية بغض النظر عن أداء بقية الوظائف والأدوار المنوطة بها. وتتجلى الأمومة في المستوى الثاني في شخصيتي (زعفرانة) و(نفلة)، وهما النموذج الذي يحمل سمة الاستمرارية والثبات، وذلك بتمثلهن مفهوم الأمومة، برغم غياب أمهاتهن، حيث إن غياب الأم بالموت لم يغيب وظيفتها وسلطتها، فهي حاضرة في البدائل التي تضمن خلودها، فقد كانت والدة زعفرانة تحضر في أحلامها ملهمة لها ببعض الأعشاب والأدوية، وكذلك والدة نفلة التي تحضر في منامتها لتلقي عليها بظلال الأمان والسكينة، هذا الغياب الجسدي لأمهاتهن يوازيه الغياب المعنوي لأم كل من (نادرة) و(جليلة). وتنتقل خبرة الأمومة الفردية من (زعفرانة) إلى (نفلة) التي تجمع إلى جانب هذه الخبرة خبرات الأمهات في القرية؛ فقد: « تطوعت كل أمهات القرية لرعايتي، وأنا عشقت روائحهن، فتعلمت في كل بيت مهارة سيدته، طبخت مع أم نادرة، وخطت الثياب مع ابنتها، عجنت مع فلوة، وصليت مع رضوى، وخضضت اللبن واستخرجت الزبد مع رابحة.. أجدت كل شيء، ثم عزفت عنه، صرت التاجرة الجديدة في السوق..»، فكل أولئك الأمهات كثفن معنى الأمومة وتمثلت (نادرة) خلاصته؛ ولم تكن تلك المعارف والخبرات الفردية لتنتقل إلى (نفلة) لولا اتفاق العادات والتقاليد والأعراف على هذه المنظومة؛ لضمان انتقال المهارات الأمومية المشتركة في تسلسل تواضع عليه المجتمع؛ كي يتقبل (نفلة) الفتاة البدوية اليتيمة القادمة من البادية لتستقر مع والدها في القرية، وتتقبل هي هؤلاء الأمهات: «فالدنيا أهدتني الكثير من الأمهات، كأن أمي قبل أن تذهب عهدت بي إلى كل أمهات الكون، كوني أنا على الأقل. كلهن لا يتوانين يطعمنني ويسلني ويلبسنني أغلى ثيابهن. وكذلك اعتنت بي أمي سندس منذ دخلت بيتها»، وهذه الأمومة لا تخضع لقوانين العمر، فنادرة التي تكبر نفلة بخمسة أعوام تعتني بها عناية الأم بابنتها، كما أنها لا تخضع لقوانين الجنس واللون فزعفرانة السوداء تمارس أمومتها مع نفلة البدوية البيضاء، وكذلك الأمهات القرويات مع البدوية الصغيرة، هؤلاء الأمهات اللواتي يعرفن بأسمائهن الصريحة دون أن تدعى إحداهن بـ (أم فلان) -فيما عدا أم هاشم زوج نفلة- مهدن لبلورة هويتها الجديدة من فتاة بدوية إلى نسخة أخرى من زعفرانة؛ غير أن القدر سيجعلها نسخة أفضل، بما تحقق لها من علم ومعرفة، ويبدو أن تكوّن شخصية نفلة بدون أم، وافتقادها الذاكرة والتجارب المشتركة معها يتسق وفكرة الأمومة الاجتماعية؛ فيما مثلن لها هؤلاء الأمهات مرجعية أمومية لم تشعرها بالفقد. وتعد الأمومة في هذا المستوى وسيلة وليست هدفًا، وامتلاك هذه الوسيلة بوصفها قوة هو حق للمجتمع الذي يمنحها ويقر بها بقدر تحقيق الأهداف والوظائف والمصالح العامة، وتنمية الانتماء للمنظومة، لذلك تقبل المجتمع القروية الذكوري أمومة زعفرانة بعد أن تحررت من العبودية التي كانت تقيدها بالعمل، لكنها بعد أن تحررت أصبحت الأمومة مقابلًا للعبودية التي جعلتها ملكًا لمجتمعها، الذي يثق بها فيلجأ إليها الرجال قبل النساء لطلب العلاج والمشورة، وستورث ذلك لنفلة الفتاة البدوية، التي نسي الجميع أصلها البدوي وظنوا أنها ابنة زعفرانة المنسية، بل وهي التي تمنح نفلة الحياة حين يشارف الموت على اختطافها أكثر من مرة، ففي الخرابة:» أمسكت بي أمي زعفرانة وغمرتني، فسرت خدرة حنانها في عروقي، عندها تذكرت أنها القوة الحارسة»، وحين لم تجد أعشابها نفعًا في استعادتها وعيها، أرسلتها إلى الرياض: «لم تتردد زعفرانة في قبول أمل يعيد فتاتها إلى الحياة «، وقبل ذلك حين أخذت بيدها حين دخلت القرية يتيمة الأم، ثم يتيمة الأب. وتسعى زعفرانة لمد نفلة بأسباب الحياة لأنها امتداد لشخصيتها التي حفظت ثقافتها ومعارفها وأسرارها واستطاعت تجاوز العقبات التي لم يكن لزعفرانة تجاوزها بفعل ظروفها وإمكانياتها المعرفية والمكانية، لكن الأمومة منحت الاثنتين حرية في محيطهما الاجتماعي، وأخرجتهما من دائرة النبذ العنصري، وبتجذر هذا المعنى في داخلهما، تخلصا من أعباء تلك الخلفية الاجتماعية، فتفيض كل من (زعفرانة) و(نفلة) بمشاعر الأمومة بما تعنيه من حب العطاء والتضحية، وهي صورة الأم التي استقرت في الوعي الجمعي مدفوعة بغريزة فطرية تمثل قوى الحب والاهتمام. ومن نافلة القول إن فكرة الأمومة تتجذر في الرواية وتنعكس على المكونات الكونية والحياة الطبيعية، فشباط ابن المربعانية التي أوصت ولدها أيضًا كما هي وصايا زعفرانة لنفلة:» يا ولدي مريت ولا ضريت، عليك باللي وقوده ليف، وقوته عصيد، ولا تقرب اللي وقوده سمر وقوته تمر»، وكذلك الأعشاب التي تعرف زعفرانة روائحها وتدرك أسرارها الدوائية تعامل زعفرانة بوصفها ابنتها:» تدلني الأعشاب والأماكن على نفسها. يخبروني أنني ابنتهم التي يعتمدون عليها في رفع لعنة الألم الأرضي عن الناس»، فالطبيعة هي النموذج الأمومي الأول، والذي يمارس هذا الفعل بتكرار وديمومة، فالأم في الطبيعة مماثلة للأم في الحياة الإنسانية في الرعاية والاهتمام. خلاصة القول: أن الأمومة بوصفها منظومة قيمية هي القوة الاجتماعية التي تمنح المجتمعات حياتها، وتعيد تشكيلها، فهي ليست مجرد ارتباط بيولوجي، بل قوة ضمنية تشكل الهوية وتستثمر معاني الرعاية والعطاء في كل تفاصيل الحياة. ومن خلال هذا التصور تتحول الأمومة إلى محور أساسي يمزج بين الغريزة الطبيعية والمسؤولية الاجتماعية مما يجعلها أداة تحرر وتمكين لدور المرأة في المجتمع، فحين تغيب الأمهات جسديًا عن السرد، لا يلغى حضورهن المعنوي الذي يتمثل في القيم والمبادئ التي يزرعنها، وفي الأثر العاطفي والاجتماعي الممتد. ويبدو أن هذا الطرح للأمومة بما يحمله من دلالات اجتماعية وثقافية يستدعي مزيدًا من التأمل والبحث لفهم أبعاد هذه القوة ودورها في صياغة المجتمعات الإنسانية. ** ** د. دلال بنت بندر المالكي - أديبة وأكاديمية
مشاركة :