تأثير المحتوى الرقمي على صحتنا العقلية - فاطمة المتحمي

  • 1/26/2025
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ظهر مصطلح «تعفن الدماغ» لأول مرة في عام 1854 على لسان عالم الطبيعة والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو، حيث استخدمه كناية عن انتقاد التبسيط المفرط في تفكير الناس وتعاملهم مع القضايا والمشاكل اليومية. وقال ثورو في ذلك الوقت: «هناك توجه في المجتمع لتقليص قيمة الأفكار القابلة للتفسير بطرق متعددة لصالح الأفكار السطحية والبسيطة، وهذا يعد دليلاً على تراجع عام في الجهد الفكري والعقلي لدى البشر». يبدو أن اعتقاد ثورو كان يحمل الكثير من الصحة، خاصة إذا نظرنا إليه من منطق تطور العقل البشري. فعندما يفتقر الإنسان إلى استخدام عقله في التفكير العميق والتأمل، قد يؤدي ذلك إلى حالة من الخمول العقلي والركود. ولذلك، يحتاج الإنسان بشكل مستمر إلى فترات من العصف الذهني والتفكير النقدي لتجديد نشاط عقله وتنشيط قدراته المعرفية. «أصبح اليوم هذا المصطلح مرتبطًا بتأثيرات الاستهلاك المفرط للمحتوى عبر الإنترنت، من القلق والتوتر إلى الاكتئاب واضطرابات النوم، بل وتشمل آثاره أيضًا تدني الثقة بالنفس» يمكن صياغته بشكل أبسط على النحو التالي: «أصبح المصطلح اليوم يرتبط بتأثيرات الاستهلاك المفرط للمحتوى عبر الإنترنت، مثل القلق والتوتر والاكتئاب واضطرابات النوم، بل يشمل أيضًا تدني الثقة بالنفس». في عام 2024، اختار قاموس أوكسفورد مصطلح «تعفن الدماغ» ليكون «مصطلح العام»، بعد أن حصل على 37 ألف صوت من مجتمع الجامعة حول العالم. وفقًا لتعريف قاموس أوكسفورد، يشير المصطلح إلى التدهور العقلي الناتج عن الاستهلاك المفرط للمحتوى الرقمي عبر الإنترنت، وخصوصًا ذلك المحتوى السطحي وغير المفيد الذي يتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وأصبحت التكنولوجيا، وخصوصًا الأجهزة المتصلة بالإنترنت، جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، لكنها في الوقت ذاته مرتبطة بتدهور صحة الدماغ، إذ يؤدي الاستخدام المستمر للأجهزة إلى الشعور بالتعب، ويؤثر على الصحة النفسية والتركيز. في هذا السياق، بدأ جيل «زد» (Gen Z) وجيل «ألفا» (Gen Alpha) في مناقشة تأثير التكنولوجيا على الدماغ عبر منصات مثل «تيك توك»، محذرين من الأضرار التي يسببها المحتوى الرقمي ذا القيمة المحدودة. يشير الباحثون إلى أن زيادة الوقت الذي يقضيه الشخص أمام الشاشات يؤدي إلى تشويش ذهني، وانخفاض في القدرة على التركيز، وتدهور في الأداء المعرفي. وفي هذا السياق، يُعتبر سلوك «التمرير الكارثي» (Doomscrolling)، أو البحث المستمر عن الأخبار السلبية عبر الإنترنت، سلوكًا يعزِّز تدهور الدماغ، حيث يحفز إفراز الدوبامين بشكل مؤقت، مما يولد شعورًا زائفًا باللذة. إن الاستخدام المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي أصبح أحد أبرز أسباب إدمان التكنولوجيا، ويؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية والقدرات المعرفية، خصوصًا بين الأطفال والشباب. المنصات مثل فيسبوك وإنستغرام ويوتيوب وتيك توك تساهم في اضطرابات سلوكية وفكرية تؤثر على الحياة اليومية للأفراد. فالمحتوى السريع مثل مقاطع الفيديو القصيرة، على سبيل المثال، يؤثر على قدرة الدماغ على التركيز ويقلل من حجم النواقل العصبية في الدماغ. من أبرز الأضرار المرتبطة بهذا السلوك هو «فقدان السيطرة على الوقت»، إذ يجد الشخص نفسه مدمنًا على تصفح المحتوى، مما يقلل من إنتاجيته. في الوقت ذاته، يؤدي استخدام الأجهزة الذكية قبل النوم إلى تدهور نوعية النوم، مما يسبب التعب والإرهاق عند الاستيقاظ. وتُظهر الدراسات أيضًا علاقة بين «الخوف من فقدان الفرص» (FOMO) و»اضطراب استخدام الشبكات الاجتماعية» وتأثير ذلك على القدرات المعرفية واتخاذ القرارات. يعتمد الأشخاص بشكل متزايد على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يُضعف من قدرتهم على التفكير النقدي والتمييز بين الحقائق والآراء. كما يُسهم ذلك في تدهور القدرة على التركيز، لا سيما لدى الأطفال الذين يقضون وقتًا طويلاً أمام الشاشات. وفي دراسة أجراها هوتن في عام 2020، أُظهِر تأثير سلبي للتكنولوجيا على تطور الأدمغة، خاصةً في الأطفال. شملت الدراسة 47 طفلًا في سن ما قبل المدرسة، وأظهرت أن الاستخدام المفرط للمحتوى الرقمي كان مرتبطًا بتدهور صحة الألياف البيضاء في الدماغ، وهي المسؤولة عن وظائف مثل اللغة والتركيز والقدرة على القراءة والكتابة. في السنوات الأخيرة، زادت الدراسات حول الإدمان الرقمي وأضراره على الدماغ. تركز معظم هذه الدراسات على الطلاب الجامعيين أو البالغين، وغالبًا ما تقتصر على نوع واحد من الإدمان الرقمي، مثل اضطراب الألعاب الإلكترونية أو الإفراط في استخدام الهواتف الذكية. تظهر هذه الدراسات أن الإدمان الرقمي يؤثر سلبًا على أدمغة الشباب، خاصة في الفص الجبهي. ومع ذلك، هناك نقص في الأبحاث المتعلقة بالآثار العصبية للإدمان الرقمي، مما يبرز الحاجة إلى إجراء دراسات وأبحاث تهدف إلى الوقاية من الإدمان الرقمي ومعالجته، ودعم نمو الدماغ الصحي، خصوصًا لدى الأطفال والمراهقين. وختامًا، لا شك أن التكنولوجيا قد سهَّلت الكثير من جوانب حياتنا اليومية، وساعدت في إنجاز المهام بشكل أسرع وأكثر كفاءة. لكن من الضروري أيضًا أن نكون واعين لما قد تسببه من تأثيرات سلبية على الدماغ وصحة الإنسان. في النهاية، نحتاج إلى توازن بين الاستفادة من التكنولوجيا وأخذ فترات من الراحة الذهنية لتجنب «تعفن الدماغ» والحفاظ على صحتنا النفسية والعقلية. وإيجابيًا، على سبيل المثال، اعتمدت شخصيًا في الحصول على معلومات هذا المقال من خلال الدراسات المتوفرة رقميًا. وسلبيًا، كنت أكتب المقال وعين على شاشة الكمبيوتر والعين الأخرى على شاشة الهاتف تحسبًا لوصول إشعار مهم.

مشاركة :