«العلاقات السّودانية - الصّينية (1956-2011)»، عنوان كتاب جعفر كرار أحمد الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت، وتنبع أهميته من كونه أول عمل متكامل حول هذه العلاقات، يلقي الضوء أيضاً على اهتمام الصين بأفريقيا ودولها. اعتمد المؤلف على معلومات أولية اكتسبها من عمله ديبلوماسياً٬ في وزارة الخارجية السودانية، وهذا ما سمح له بمتابعة العلاقات السودانية - الصينية، والاطّلاع على كثير من ملفاتها. ويتضمن الكتاب إلى جانب جزء خاص بالإطار النظري لدراسة العلاقات السّودانية - الصّينية، ثمانية فصول: يتناول الفصل الأول٬ العلاقات من الجانبين التاريخي والوظيفي٬ مستهدفاً التطور التاريخي للعلاقات بين البلدين، منذ العصر المِروي، وحتى أوئل القرن العشرين. وتتناول الفصول (الثاني، الثالث، الرابع والخامس): تطور هذه العلاقات على مدى الفترة من 1955 إلى 2011. ويتناول الفصل السادس: التّعاون السّوادني - الصّيني، في قطاع النفط، خلال الفترة من حزيران (يونيو) 1989 إلى تموز (يوليو) 2011. أما الفصل السّابع فيتناول العلاقات الاقتصادية والتجارية غير النفطيّة. وأفرد الفصل الثامن لرصد علاقات التّعاون الثقافي والتربوي من 1989 إلى 2011. ويتعمّق المؤلف في تاريخ العلاقات السّودانية - الصينية منذ العصر المِروي، وحتى 2011، تاريخ انقسام السّودان المعاصر إلى دولتين. ويرى المؤلف أن أكثر فترات العلاقات بين البلدين سلاسة، هي فترة حكم الرئيس جعفر نميري، (1969- 1985)، إذ شهدت هذه الحقبة، مجهودات كبيرة من البلدين، لتعزيز العلاقات وترسيخها، في المجالات كافة. كما حظيت العلاقات، في تلك الحقبة، بدعم شعبي ورسمي، حيث ترسخت صورة الصين، لدى السودانيين كدولة صديقة يمكن الاعتماد عليها. ويلاحظ القارئ أن الفترتين السودانيتين (من 1956 حتى 1958، ومن 1986 إلى 1989)، اللتين تمثّلتا بالحكم الديموقراطي، لم تشهدا زخماً في العلاقات بين البلدين، والسبب، وفق المؤلف هو قصر عمر هذا الحكم في السودان. ويعتبر المؤلف عهد الرئيس عمر حسن البشير، أطول فترات العلاقات السودانية - الصينية، وأكثرها دينامية وإثارة للجدل، إذ اتسمت قبل 1989 بعدم التعقيد، خلافاً للفترة من 1989 إلى 2011، حين تعاملت الصين مع نظام عقائدي، يرفع شعارات إسلامية شديدة التعقيد ومحاصر دولياً ومرفوض داخلياً، يجيد المناورات على الصعيدين الداخلي والخارجي. وقد أدرك النظام أنه لا منفذ لكسر الحصار الدولي والإقليمي المضروب حوله، سوى التوجه شرقاً وترسيخ علاقته مع الصين، في وقت شهدت هي الأخرى، تغيّرات كبيرة، حتمت عليها تعزيز علاقاتها مع الدول النامية وفي مقدمها السودان. ويرى المؤلف أن العلاقات بين البلدين، ليست وليدة عام 1955، عندما التقت قيادتا البلدين، ممثلة برئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي، ورئيس الوزراء السوداني إسماعيل الأزهري في مدينة باندونغ، في إطار المشاركة، في تلك التظاهرة العالمية المعادية للاستعمار. إذ تعود الاتصالات بين البلدين، إلى قرون بعيدة؛ فقد ربط الطريق التجاري البحري (طريق الحرير البحري) موانئ السودان الشرقية بالتجارة، مع الشرق الأقصى، منذ ما قبل الميلاد، بل إن منتجات سودانية مثل الزمرد والزبرجد، كانت تصل إلى الصين، منذ حقبة أمنحوتب (1379-1417 ق.م). كما يعتقد باحثون صينيون، بأن حكامهم في أسرة هان الغربية، كانوا على اتصال مع مملكة كوش في شمال السودان. وهنا يلفت الكاتب إلى أن العثور على خزف وقطع نقدية صينية في الموانىء السودانية (باضع، عيذاب، سواكن ) وفي سنار، تعود إلى أسر ملكية صينية، يدل على انتعاش التجارة والاتصالات بين البلدين، على الأقل لألف عام مضى. لكن اللافت قول المؤلف جازماً: إن نتائج الدراسة، لا تتفق مع تصريحات المسؤولين، والمؤسسات التابعة لحكومة الإنقاذ الوطني، حول وصفهم طبيعة علاقاتهم القائمة مع الصين، خلال الفترة (1989 - 2011 ) بـ «الإستراتيجية»؛ فلقد رصد الكاتب وثائق رسمية، وعشرات التصريحات لمسؤولين سودانيين في فترات ومناسبات مختلفة، حرصوا خلالها على وصف علاقتهم السياسية، وعلاقة الحركة الإسلامية مع الحزب الشيوعي، والحكومة الصينية بـ «الإستراتيجية». إلا أن الكاتب لم يعثر على أيّة وثيقة اتفاق للتعاون الإستراتيجي أو التعاون الإستراتيجي الشامل بين الصين والسودان؛ كالاتفاق الموقّع بين جمهورية مصر العربية والصين، أو بين الصين وجنوب أفريقيا، أو غيرهما، حتى تموز 2011، تاريخ إنجاز الدراسة؛ بل على العكس من ذلك؛ لاحظ الكاتب أن استراتيجية الصين في القارة الأفريقية، على أرض الواقع، تبدو، أحياناً، شديدة التضارب مع توجهات الحكومة السودانية في أفريقيا. إضافة إلى تأكيد الكاتب إن حصيلة العلاقات السودانية - الصينية المتواضعة، والضغوط الدولية الهائلة، والأضرار التي لحقت بصورة الصين، في القارة (الأفريقية) بسبب علاقتها بالسودان، تكشف أيضاً - وفي تقدير المؤلف - خللاً واضحاً في سياسة الصين الخارجية في أفريقيا، فهي التي تعطي الأولوية القصوى لموقف هذا النظام أو ذاك، من منظومة التحالفات الدولية، خصوصاً تجاه الولايات المتحدة، وللمصالح الاقتصادية، مانحة فرصة للشركات الصينية الكبرى، في بعض الأحيان، لتشكيل سياسة الصين تجاه هذه الدول، كما الحال مع السودان، من دون النظر الفاحص لطبيعة النظام الحاكم وإستراتيجيته ورؤاه وطموحاته وارتباطاته، ولصورة الصين في المديين المتوسط والبعيد. * كاتب لبناني
مشاركة :