قدم الناقد عبدالرحمن مرشود خلال الحلقة النقدية التي نظمها نادي جدة الأدبي الأربعاء الماضي ورقة نقدية بعنوان: (في أكسيولوجيا الكذب) استهلها بالإشارة إلى ثلاثة نماذج سينمائية غربية، تناول كل منها قضية (الكذب) من زاوية مختلفة، هي: ثلاثة أفلام تعد حديثة نسبيا بالنظر إلى عمر السينما فأقدمها صادر منذ ثلاثة عشر عاما تقريبا، أقدم الأعمال الثلاثة فيلم (السمكة الضخمة) الذي صدر عام 2003 وهو عمل كتبه (جون أوغست) وأخرجه (تيم برتون). تتحدث قصة الفيلم عن شاب عاش عمره يعاني فقدانه المعرفة الحقيقية بتاريخ والده، ليس بسبب صمته، بل بسبب الأكاذيب التي يسمعها منه كلما وجه له أي سؤال عن حياته الماضية. يحب الأب سرد القصص العجيبة التي لا تصدق في كل مناسبة خصوصا قصته المفضلة عن الأحداث التي مرت به يوم ولادة ابنه، حيث تمكن من استرداد خاتم خطوبته من جوف سمكة ضخمة بعد أن أمسكها وأجبرها على لفظه خارجا قبل أن يعيد إطلاق سراحها في النهر. يمل الشاب أكاذيب والده ويقرر مقاطعته بعد إحراجه إياه عشية زفافه، لتمر ثلاثة أعوام دون أي تواصل بينهما. يتلقى الابن بعدها ما ينبئه بأن الأب مشرف على الموت بسبب حالته الصحية المتدهورة، فيجبره ذلك إلى العودة للبقاء بالقرب منه خلال ما بقي له من أيام. يعود الابن ترافقه زوجته التي تجد نفسها مستمتعة بأقاصيص والد زوجها كما تتعرف على والدته التي لا تتحدث كثيرا، لكن يبدو أنها منسجمة جدا مع زوجها وما يرويه عن نفسه وعنها من تاريخ. يقتنع الشاب أخيرا برأي زوجته التي ترى أن عليه إعادة النظر في طريقة تلقيه ما يسرده والده قبل إصدار أحكامه عليه. تتوالى الأحداث التي تجبر الشاب أخيرا على أن يستمع بطريقة مختلفة إلى ذات القصص التي كان يسمعها منذ طفولته، إلى أن يبلغ التأثر به حد تبادل الأدوار مع والده لحظة احتضاره، فيروي له ما يشتهي أن يسمعه عن طريقة موته ويصل به الاندماج مع ما يرويه إلى الدرجة التي يوشك أن يرى بها شخوص ما يسرده وتفاصيله بعين أبيه نفسها. وعن الفيلم الثاني قال مرشود: يتحدث الفيلم عن مدينة لا تعرف الكذب، بل إن كلمة (الكذب) ونقيضتها (الصدق) غير موجودة في قاموس سكانها أصلا. فالناس هناك مجهزون بيولوجيا بحيث يمتنع عليهم الكذب، لذلك فكرة إمكانية سرد الأحداث بشكل مغاير للواقع خارجة عن نطاق تفكيرهم تماما، لذلك لا أثر للإبداع والفنون التخيلية في هذه المدينة ولا وجود للنكات أو المجاملات التي يلطف الناس بها حياتهم أو حتى عبارات التحبب التي من الممكن أن يواسى بها الناس بعضهم في أوقات شدتهم وضعفهم. ومن اللافت أثر غياب الكذب على ما يعتبره الناس مذمومات أو رذائل، إذ إن مع غياب الكذب لا وجود فعلي لما نعتبره نحن رذائل سلوكية لعدم قدرة الناس على إخفائها. أما ما نعده رذائل قلبية فرغم وجودها في تلك المدينة، إلا أن الناس هناك لا يعتبرونها رذائل فهي جزء من التكوين المكشوف للجميع، لكن أهم سمات هذه المدينة -كما عرضها الفيلم- هو أنها مدينة تعج بالمحبطين الفاشلين الذين يعجزون عن الكذب حتى عندما يسكرون، ذلك أنها مدينة خالية من الأمل في نهاية الأمر. بشكل غير مفهوم يستطيع أحد هؤلاء الفاشلين اجتراح الكذب، يندهش من نفسه في البداية ويرى كيف تكون الحياة سهلة جدا بالنسبة لكاذب في مكان لا يكذب فيه سواه، غير أن هذا الرجل لا يكذب لصالح نفسه فحسب، بل لصالح جميع من حوله فيُلهِم الناس ويمدهم بالأمل كما يصلح خلافاتهم الناشبة، فتدب في المدينة بهجة وإنتاجية لم تكن تعرفها من قبل، ويعيش الكاذب الوحيد فيها بطلا متوجا في قلوب جميع سكانها بالطبع. ثالث النماذج التي تتطرق لها الورقة فيلم (فارس الظلام) الذي أخرجه (كريستوفر نولان) كما شارك في كتابته أيضا مع شقيقه (جوناثان نولان). الفيلم هو الجزء الثاني من ثلاثية (باتمان) البطل الخارق الذي يتعقب المجرمين ليلا في مدينة (جوثام). من أبرز شخصيات الفيلم شخصية (الجوكر) ذلك المجرم غريب الأطوار الذي يستطيع ابتلاع عصابات المدينة واخضاعها لقيادته بعد أن تتعرض تلك العصابات لضغط التعاون بين (هارفيدينيت) المدعي العام للمدينة و(باتمان) البطل الخارق الذي يعمل خارج نطاق القانون. تكمن غرابة شخصية الجوكر في أنه لا يعمل بدافع السعي إلى المال، بل تحت تأثير هاجس إيصاله رسالة يحاول بها تعرية النفس البشرية وكشف طبيعتها للجميع. ولهذا كان أعظم إنجازاته في الفيلم هو استدراج خصمه (المدعي العام) للتورط في الانتقام غير القانوني وغير الأخلاقي من كل الذين تسببوا في إفشال خطته... ويعرض الفيلم مفارقة مهمة، حيث تظهر لغة الجوكر (المجرم) دائما، أصدق من لغة خصومه بما فيهم البطل الإيجابي للفيلم (باتمان). يضطر الطرف الخير في هذا الفيلم للانتقال من كذبة إلى كذبة يحاول بها الحفاظ على حياة الناس ومُثُلهم، إلى أن تصل ذروة الأكاذيب بأن يقرر باتمان وصديقه (الضابط الطيب) إلى إخفاء جرائم المدعي العام ويعملان على تأبينه كبطل ملهم للمدينة. فالناس «لا تستحق أن تضطر للحياة مع مرارة الحقيقة، تحتاج الناس مكافأة على إيمانها» كما يعبر عن ذلك بطل الفيلم في نهايته. يكاد الفيلم يكون بالكامل مرافعة لصالح الكذب (النبيل) ولعل هذا ما دعا الفيلسوف السلوفيني (سلوفايجيجيك) عند تعليقه عليه بأن يقول «المزعج في هذا الفيلم هو جرأته على إخبارنا بأن المجتمعات ستنهار ما لم تتأسس على الكذب وما لم ترمم به بشكل دائم». رغم اختلاف الألوان السينمائية للأفلام الثلاثة إلا أن هناك ما يجمعها وهو أن جميعها حاولت معالجة (قضية الكذب) من الزاوية الإيجابية، حيث لا يكون الكذب مقبولا فحسب، بل عملا محمودا ونبيلا. يحاول الفيلم الأول أن يخبرنا بأن الكذب حاجة سيكولوجية، بل إنه بشكل من أشكال أحد أوجه رواية الحقيقة، والحقيقة هنا ليست مرادفا للواقع على كل حال، بل هي قيمة أكثر إطلاقية وتساميا منه. أما الفيلم الثاني فيحاول التأكيد على الحاجة الاجتماعية للكذب بصفته وسيلة ترابط بين المجتمعات ومحرك فعال يبث فيها الأمل والمعنى، كما لم يخل هذا الفيلم من الإيماء لقضية إعادة النظر في قصة الوجود حسب المنظور الغربي الحديث أيضا. أما الحاجة التي يسعى الفيلم الثالث إلى عرضها فهي الحاجة السياسية، حيث لا يمكن اللعب بشكل مكشوف مع تحديات الأمن وتعقيدات السياسة، كما لا يمكن الاكتفاء فيها بمجرد إخفاء الحقائق كذلك، فمن شأن المدنية أن تضطرنا إلى الكذب النبيل بشكل دائم كما يحاول الفيلم أن يقول. من شأن ذلك كله -إن أخذناه على محمل الجد- أن يعيدنا إلى طرح السؤال المهم من جديد، وهو: من أين استمد الضمير الإنساني ذمه للكذب وعلى أي أساس أدانه أخلاقيا؟ وقال مرشود: طرح العقل الغربي الحديث هذا السؤال كثيرا، في ظل بحثه عن مرجعيات أخلاقية لا تخضع للإطار الديني بشكلٍ كامل، إذ لا يمكن إقامة أي فلسفة للقيم (أكسيولوجيا) دون معالجة قضية الصدق والكذب. واشار الى ما مثله (ايمانويل كانط) وتبريراته الفلسفية.
مشاركة :