دستورياً الرئيس الأمريكي هو المسؤول الأول عن صنع وتنفيذ السياسة الخارجية، من خلال ترؤسه لإدارته (السلطة التنفيذية). بالإضافة إلى أن النظام السياسي الأمريكي، من حيث حركته وقيمه، يأخذ بصيغة الفصل بين السلطات (Separation of Powers).. وإجرائياً: بآلية التوازن والرقابة المتبادلة بين السلطات (Check and Balance) لمنع، أو على الأقل، الحد من تداخلها، لضمان أكبر قدر ممكن من الفعالية والكفاءة والشفافية، والحؤول دون استغلال السلطة أو احتكارها من قبل أي جماعة أو مؤسسة سياسية رسمية أو تكتل حزبي... إلخ. إلا أن كل ذلك يظهر فقط من خلال العالم الافتراضي (المثالي) لحركة السلطة وقيمها في النظام السياسي الأمريكي. في حقيقة الأمر: مؤسسات الحكم والدولة، في الولايات المتحدة، لا تعمل -بصورة مطلقة- لا وفق مواد الدستور، الزاخرة بالتناقضات، ولا طبقاً لصيغة الفصل بين السلطات وآلية التوازن والرقابة المتبادلة، على إطلاقها. في الدستور الأمريكي، مثلاً: هناك مواد صريحة تتعارض مع صيغة الفصل بين السلطات، مثل تلك الخاصة بآلية سن القوانين وإقرارها، التي تتم في ما يشبه الشراكة بين البيت الأبيض والكونجرس. بمثل هذا التناقض الدستوري، يُفسح المجال لمنطق السياسة وطبيعتها الصراعية، بأن تأخذ فرصتها في الحركة والمناورة، بعيداً عن مواد الدستور، وآلية صيغة الفصل بين السلطات. أبرز صور هذا التداخل بين البيت الأبيض والكونجرس تتجلى في مجال صنع وتنفيذ ومتابعة السياسة الخارجية الأمريكية. دستورياً: تعيين رموز صنع وتنفيذ ومتابعة السياسة الخارجية الأمريكية، من وزير الخارجية وحتى السفراء، يُعد من صميم اختصاص الرئيس... لكن دستوريا أيضاً: لا تُعَدُ هذه التعيينات نافذة، إلا إذا صادق عليها الكونجرس، وأصدر القوانين اللازمة المشرعة لوضعها موضع التنفيذ! قد يرى البعض أن دور الكونجرس في صنع وتنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية، يقف عند هذا الخلط الدستوري الواضح، إلا أن جميع موظفي الدولة الكبار الذين تم تعيينهم بالشراكة بين البيت الأبيض والكونجرس، يكونون تحت الرقابة والمساءلة من قبل النواب والشيوخ، طوال فترة خدمتهم المدنية أو العسكرية، من خلال آلية طلبات الإحاطة وجلسات الاستماع، التي عادةً ما تجرى في الكونجرس لرموز السلطة التنفيذية، التي في أحوال نادرة لا تستثني رئيس الجمهورية، المنتخب من قبل الشعب! لكن في حقيقة الأمر لا يتوقف تدخل الكونجرس في عمل السلطة التنفيذية، عند حدود هذه النماذج «الكلاسيكية» المجافية لصيغة الفصل بين السلطات. عندما يعمد الكونجرس إلى تغيير توجه البيت الأبيض تجاه قضية من قضايا السياسة الخارجية، فإن ليس من شأن هذا أن يربك البيت الأبيض في القيام بمهام صنع وتنفيذ ومتابعة السياسة الخارجية للبلاد، فحسب... بل قد يخلق سابقة سياسية غير دستورية تنال من صيغة الفصل بين السلطات، وربما الإضرار بمصالح الولايات المتحدة وأمنها. إقرار مجلس الشيوخ الأمريكي، يوم الثلاثاء الماضي، مشروع قانون بالسماح لضحايا أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ بإقامة دعاوى تعويض ضد المملكة العربية السعودية، من شأنه أن يسجل سابقة دستورية وسياسية وقانونية خطيرة، في حالة ما استنفد مشروع القانون كافة إجراءات سنه الدستورية، بما فيها حالة: تجاوز الكونجرس لاعتراض الرئيس عليه. من شأن إقرار مشروع قانون كهذا: النيل من واحدة من أهم قيم التعامل الدولي التي يفرضها القانون الدولي والخاصة بحصانات الدول ورموزها الرسميين من مقاضاتهم من قبل الجهات العدلية المحلية، في الدول الأخرى. كما هو معروف فإن مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة، بما فيها الكونجرس نفسه، متورطة بالقيام بأعمال عن طريق استخدام القوة العسكرية، بصورة مباشرة، كما هو حادث في حروب الولايات المتحدة الخارجية.. أو بطريق غير مباشر، بواسطة وكالة الاستخبارات المركزية، مثل: التآمر لعمل الانقلابات العسكرية.. أو تشجيع الحروب الأهلية، أو حتى العمل على تكوين وتبني بعض الجماعات الإرهابية. هذا الانخراط العنيف للولايات المتحدة، في كثير من بقاع العالم قد لا يتوقف عند مقاضاة الولايات المتحدة في محاكم الدول والمجتمعات المتضررة، فحسب.... بل قد يعرض الولايات المتحدة ورموز الحكم فيها، إلى المساءلة الجنائية أمام مؤسسات القضاء الدولي، في محكمتي العدل والجزاء الدوليتين. سواء تم إقرار مشروع القانون هذا، أم لم يتم... فهذا شأن أمريكي داخلي بامتياز. أما ما يترتب على إقرار مثل مشروع القانون هذا، فلن تكون للولايات المتحدة أي سيطرة عليه خارجياً. هناك قاعدة في القانون الدولي تقول بالمعاملة بالمثل. لن تتوانى المملكة وهي متضررة من مشروع كهذا عن الدفاع عن نفسها وعن مصالحها وأمنها، بكافة الوسائل المتاحة. ربما يطعن البيت الأبيض على دستورية هذا القانون لدى المحكمة الدستورية العليا. وإن لم يحصل ذلك، فإن اللجوء إلى القضاء يظل من ضمن الخيارات المتاحة للمملكة، بالإضافة لورقة تسييل السندات السيادية التي لدى الخزانة الأمريكية. الطعن بعدم دستورية، هذا القانون، عن طريق الدفع بالرقابة الدستورية اللاحقة لدى المحكمة العليا كفيل أن يسقط هذا القانون عند أول قضية ترفع بموجبه. إذن: مثل هذا القانون، لو صدر، فإنه يحمل عواراً دستوريا بيناً بالنظر للخلل الدستوري في صيغة الفصل بين السلطات.. وتجاوز الكونجرس لصلاحياته الدستورية وتغوُّله السياسي على مجال واختصاصات السلطة التنفيذية.. وكذا للضرر البين، الذي يلحقه بالصالح العام، المسؤولة عن صيانته دستورياً، بصورة تضامنية، كافة مؤسسات الحكم، في واشنطن. حتى لو كسبت المملكة المعركة القضائية ضد هذا القانون، في داخل الولايات المتحدة، في حالة استكمال إجراءات سنه والدفع بتنفيذه، فإن الجرح الغائر الذي ستتركه هذه الأزمة في بناء العلاقات التاريخية بين البلدين من الصعب أن يندمل، حتى لو اندمل، فإنه سيترك ندبة فارقة تشوه صورة علاقة الصداقة التاريخية بين البلدين، ربما لأجيال.
مشاركة :