«عدن الجزيرة العربية» لبول نيزان: الرواية لمحاربة البورجوازية المهيمنة

  • 5/29/2016
  • 00:00
  • 28
  • 0
  • 0
news-picture

في الدراسة الثانوية العليا، كان في صف واحد مع جان – بول سارتر وريمون آرون، أي مع المفكرين الفرنسيين اللذين كوّنا في سنوات الأربعين والخمسين جزءاً كبيراً من الرأي العام الثقافي في فرنسا. لكنه ارتبط بسارتر ولم يعر اهتماماً كبيراً لآرون. كان من ذلك النوع الذي فضّل أن يكون على خطأ مع سارتر على أن يكون على صواب مع آرون. صحيح أن هذا الأخير سيذكر في كتاب مذكراته أن «بول نيزان كان ألمعنا جميعاً»، لكن سارتر سيكون هو في سنوات الستين من سينفض عنه غبار النسيان، وذلك بعد عشرين عاماً من رحيله. فبول نيزان رحل في العام 1940 خلال الحرب العالمية الثانية قتيلاً على جبهة دانكرك وكان بعد في الخامسة والثلاثين من عمره. حين مات قال كثر أن الثقافة الفرنسية خسرت بموته واحداً من أكبر مبدعيها ومفكريها هو الذي كان – من ناحية كونه روائياً – الوحيد الذي ضخّ الأدب الفرنسي، الى جانب جول فاليس، بما اعتبر أدباً روائياً سياسياً حقيقياً في فترة ما بين الحربين. ومع هذا، من النادر اليوم أن يؤتى على ذكره، إن لم يكن في مجال الحديث عن المفكرين والأدباء الشيوعيين الفرنسيين الذين حدث لهم في لحظة من حياتهم أن انتفضوا ضد الممارسات الستالينية هو الذي استقال من الحزب الشيوعي الفرنسي استقالة صاخبة احتجاجاً على الاتفاقية الألمانية – السوفياتية التي وُقّعت العام 1939 واعتبرت ضوءاً أخضر لانخراط نازيي هتلر في الحرب مطمئنين الى جبهتهم الشرقية. > من بين الثلاثة الذين ذكرناهم، إذاً، كان نيزان في شبابه الأول الوحيد الذي انتمى حزبياً ومن هنا كان أكثرهم شعوراً بالخيبة من الحياة الحزبية. بيد أن الذي لا بد من الإشارة إليه هنا هو أن خيبة نيزان كانت سابقة وتعود جذورها الى تلك الفترة التي عاش خلالها مع زوجته في موسكو في عز حقبة المحاكمات الستالينية ما يعني أن اتفاق ميونيخ لم يكن سوى الصاعق الذي فجّر شعوره باليأس والإحباط تجاه كل ما كان آمن به في حياته. ومهما يكن من أمر، ربما يجدر بنا في سبيل تحري جذور تلك الأحاسيس المحبطة التي خبرها نيزان في النصف الثاني من سنوات حياته، أن نعود إلى ذلك الكتاب «الروائي» الذي يعتبر أشهر أعماله ونعني به «عدن، الجزيرة العربية». للوهلة الأولى قد يبدو هذا الكتاب الذي أصدره نيزان في طبعة أولى في العام 1931 كتاب رحلات، لكنه ليس كذلك تماماً. ونحن إن كنا وضعنا وصفه بـ «الروائي» قبل سطور بين معقوفتين، فما هذا إلا لأننا لسنا كذلك أمام رواية بالمعنى الحرفي للكلمة، مع أنه كان من المقصود من الكتاب أن يكون رواية. فلنقل بالأحرى أن «عدن، الجزيرة العربية» رواية أوتوبيوغرافية وضعها نيزان انطلاقاً من إقامته في عدن لعدد من الشهور بعدما كان في نيته أن يقيم لمدة أطول. > في هذا الكتاب الذي يبدأه نيزان بالعبارة التالية – التي سرعان ما أضحت من أشهر العبارات في الأدب الفرنسي: «كنت في العشرين من عمري، وما كان من شأني أبداً أن أترك أحداً يقول أنها السن الأجمل في الحياة»، في هذا الكتاب يروي الكاتب، بلغة شديدة الأناقة وشديدة المشاكسة في الوقت نفسه، فصولاً عديدة من حياته السابقة على وصوله الى عدن واللاحقة على ذلك الوصول. إنه يحكي بصيغة الراوي، عن شخص يشبهه تماماً في طموحاته وخيباته، في أحلامه وواقعه... ويقول كيف أنه إنما أتى منبهراً أول الأمر الى هذا البلد الساحر والغريب، والذي كان سلفه الشاعر ريمبو قد أقام فيه من قبله وعبّر عن افتتانه به. نيزان لم يبد مفتوناً بعدن. أو بالأحرى بدا مفتوناً بخوض معركة فكرية شرسة ضد البورجوازية والاستعمار والاحتكارات. ضد كل ما يغرّب الإنسان عن واقعه ويحاول قهره وإذلاله. وهو رأى هذا في عدن كما رآه في فرنسا من قبل. بل إنه، وكما يقول لنا في الكتاب، إنما كان قد هرب من فرنسا وأصلاً الى هذا المكان البعيد كي يهرب «من الضجر الذي كان يشعر به في احتكاكه بالمجتمع الفرنسي الذي كان ينوء بثقله» عليه. وكان ذلك الهرب بالنسبة إليه – ودائماً كما يقول لنا جان – بول سارتر في تقديم لاحق كتبه لطبعة العام 1960 من الكتاب – «آخر محاولة للعثور على حل فردي» يقوم بها عقل غاضب ومتمرد. ولنذكر هنا أن نيزان حين قصد عدن لم يذهب إليها كموظف حكومي أو مندوب لشركة. ولا حتى كـ «تاجر سلاح كما كانت حال الشاعر ريمبو»، بل قصدها تجاوباً مع وظيفة عرضت عليه كمدرس خاص لابن تاجر إنكليزي من أصل فرنسي يعيش ويعمل في عدن. وفي هذه الأخيرة، سيكتشف نيزان أن المنظومة الاجتماعية نفسها التي هرب منها الى عدن، سائدة هنا أيضاً. فهو لم ير في تلك المدينة العربية سوى «قرص أوروبي محمّى على البارد» وفق تعبيره. وكانت تلك هي المرة الأولى في حياته التي يجد نفسه فيها على احتكاك بالمسألة الاستعمارية التي سنعود لنراها ماثلة في كتبه و «رواياته» التالية. > إذاً بين انطباعه بكل المساوئ التي كانت هي ما تسبب بمبارحته باريس، في العام 1026 وكان لا يزال بعد في أول عشرينات عمره، وانطباعه الجديد بالمساوئ التي راح يكتشفها في مقر إقامته العربي الجديد، راح فكر بول نيزان يتأرجح بقوة، وراح هذا التأرجح ينعكس على الكتاب نفسه بحيث بات ذات لحظة يتخذ سمة البيان السياسي الخالص. صار الكتاب نوعاً من الرصد للأحوال الاجتماعية والسياسية للعالم، ومن خلال ذلك تنديداً بـ «البورجوازية التي تهيمن على معظم أجزاء هذا العالم وتفرض عليه ثقافتها وقيمها». وفي مواجهة هذه البورجوازية «الفاسدة والمهيمنة»، يقول نيزان، «علينا ألا نخشى الكراهية علينا ألا نخجل إن قيل عنا أننا متعصبون» وذلك لأن «ليس ثمة في هذا العالم الذي نعيش فيه سوى نوعين من البشر، نوعين ليس ثمة سوى الكراهية للربط بينهما: النوع الذي يسحق والنوع الآخر الذي لن يذعن أمام من يحاول سحقه». وإذ يصل نيزان الى هذه النتيجة، يتساءل في نهاية كتابه بكل مرارة: ترى هل كان عليّ أن أذهب الى هذا المكان البعيد؟ إلى الصحارى الاستوائية كي أتمكن من أن أنبش كل هذه الحقائق العادية؟ هل كان علي أن آتي الى عدن كي أعثر على أسرار باريس؟» > كل هذا بدا في حينه قاسياً شديد القسوة، ومع هذا استُقبل الكتاب في باريس من جانب بعض كبار النقاد والمفكرين استقبالاً حافلاً. واعتبرت «رواية بول نيزان الأولى» هذه إيذاناً بولادة كاتب كبير. وبالفعل واصل الكاتب طريقه في كتابة هذا النوع من الرواية – السياسية – الأوتوبيوغرافية، فأصدر خلال السنوات التالية «أنطوان بلوي» (1933) ثم «حصان طروادة» (1935) فـ «المؤامرة» (1938)... وفي هذه الكتب الثلاثة على التوالي، راح نيزان يتابع مسار حياة أبيه وبالتالي حياة أسرته قبل ولادته وبعدها هو شخصياً في العام 1905، ومن خلال ذلك رسم صورة تليق بإميل زولا - وإنما أكثر حدة وأوضح التزاماً بكثير-، للأحداث والظروف الاجتماعية التي مرت بها فرنسا خلال تلك المرحلة ولا سيما خلال فترة ما بين الحربين العالميتين. وعلى رغم أن بعض نقاد الصحافة اليمينية هاجموا أدب نيزان منذ روايته الأولى قائلين، كما فعل ناقد في صحيفة «الباريسي الصغير»، أنهم لم يقرأوا في حياتهم «أدباً مهيناً للفرنسيين ولفرنسا الى هذا الحد»، فإن نقاداً ومفكرين أكثر أهمية رأوا أن أدب نيزان أدب صادق وموقظ ويعتبر نموذجاً نادراً للأدب السياسي الحقيقي. > لكن بول نيزان لم يكتب ذلك النوع من الروايات فقط، بل كتب كذلك في الفكر السياسي وتاريخاً لـ «ماديي العصور القديمة». أما كتابه غير الروائي الأشهر فهو «كلاب الحراسة» الذي يعتبر أقسى هجوم فكري على الفكر الفرنسي، كما تجلى إبان الجمهورية الفرنسية الثالثة ولا سيما لدى الفيلسوف برونشفيغ.

مشاركة :