الثعالبي .. حكّاء القرن الرابع الهجري

  • 5/28/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يكتب الثعالبي تحت عنوان في المياه وما يضاف إليها قائلا:العرب تستعير في كلامها الماء لكل ما يحسن موقعه ومنظره ويعظم قدره ومحله، فتقول: ماء الوجه، وماء الشباب، وماء السيف، وماء الحيا، وماء النعيم، ويستمر في رصد ما يضاف إلى الماء متنقلاً بإمتاعية لا حدود لها بين ماء زمزم، وماء صداء، وماء مأرب، وماء المفاصل، وماء السماء، وماء طريق الحج، وماء الغادية، وماء عناق، وماء الشباب، وماء الحسن، وماء الندى، وماء الكرم، وماء الظرف، وأديم الماء...الخ. هو الماء عندما يتحول إلى سردية وتصل مهارة المؤلف ليشعرك أن الماء يتحرك أمامك من خلال الصور الفنية والأمثلة التاريخية، وكأنه يريد أن يوثق للماء، فالماء موجود في الثقافة الدينية وفي الآبار ويستخدم لوصف طباع البشر، وله حكايات وأساطير، الماء عند الثعالبي يساوي الحياة نفسها. هذا الثراء اللغوي والمعرفي لا نجده لدى الثعالبي في الماء وحسب، ولكننا نشاهده في كل ما يضاف وينسب إلى الله تبارك وتعالى، وإلى الأنبياء، وإلى الملائكة والجن والشياطين، وإلى الصحابة والتابعين، وإلى القرون الأولى، وإلى القبائل، وإلى العرب ومشاهيرهم..وصولاً إلى الحيوانات والطيور والطعام والحلي، والليالي المضافة، ولا تملك وأنت تتصفح كتاب أبي منصور الثعالبي ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، إلا أن يغريك هذا العنوان أو ذاك بالقراءة، وعندما تتورط في المطالعة ربما تجد نفسك قد قرأت عشرات الصفحات من هذا الكتاب. الكتاب كنز إمتاعي وثروة في آداب العرب ومعارفهم، في فصل بعنوان في الآثار العلوية تقرأ عن لعاب الشمس: لعاب الشمس عند العرب هو ما يتراءى كالخيوط في الجو عند شدة الحر، وعن نجوم الشيب:قال ابن الرومي: رب ليل تراه كالدهر طولا/ قد تناهى فليس فيه مزيد. ذي نجوم كأنهن نجوم ال/ شيب ليست تغور بل تزيد، و تقرأ عن ظل الغمام، و مطر الربيع وريق المزن، وعيث الغيث ونسيم الصبا و أنفاس الرياح، وآلاف المفردات الأخرى لتتحول الحياة لدى الثعالبي إلى منظومة متتالية من الصور الخلابة والمدهشة، ولتشعر أن الثعالبي في أسلوبه واختياراته وشروحاته أكثر معاصرة لنا من الكثيرين الذين يعيشون الآن ويطنطنون بالحداثة والتجديد. شهرة لافتة ولد عبد الملك بن محمد بن إسماعيل المعروف بأبي منصور الثعالبي في عام 350 ه في نيسابور، وكان يخيط جلود الثعالب، فنسب إلى مهنته، له الكثير من المؤلفات الشهيرة والتي تدل على موسوعية الثقافة وتنوعها منها: يتيمة الدهر في أربعة أجزاء يترجم فيهم لشعراء عصره، وسحر البلاغة، و بين المتنبي وسيف الدولة، وطبقات الملوك ونثر النظم وحل العقد و اللطائف والظرائف..الخ. ويبدو أنه أجاد عدة لغات، ففي كتابه فقه اللغة عدة فصول يوازن فيها بين العربية والفارسية والرومية، كما أنه رتب الألفاظ على حسب المعاني في هذا الكتاب، أي أنه لم يكن مولعاً باللفظ على حساب المعنى كما روج بعض المعاصرين عن القدماء، وقال عنه ابن خلكان: كان في وقته جامع أشتات النثر والنظم، رأس المؤلفين في زمانه، والمصنفين بين أقرانه، سار ذكره سير المثل وضربت إليه آباط الإبل، وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب، طلوع النجم في الغياهب، وتأليفه أشهر مواضع، وأبهر مطالع، ووصفه آخرون بأنه جاحظ نيسابور، أما جرجي زيدان فيقول إن الثعالبي في كتاب نثر النظم أو حل العقد: عمل على تحويل الشعر المنظوم إلى شعر منثور، وقال زكي مبارك عنه: قدم لأهل عصره ولقراء اللغة العربية في مختلف الممالك وعلى اختلاف الأجيال غذاء قوياً للعقول والمشاعر، وكتب الثعالبي الشعر أيضا ولكنه لا يعتبر من فحول الشعراء أو أعلامهم، و توفي في عام 429ه في باب خلاب بعنوان في الآباء والأمهات الذين لم يلدوا والبنين والبنات الذين لم يولدوا نستمع إليه معرفاً مجموعة من الأبناء، فابن الماء هو كل طائر يألف الماء، وابن الليالي هو القمر، وابن ذكاء هو الصبح، وابن الغمام هو البرد، وابن جلا هو الذي أمره منكشف، وابن خلاوة هو البريء، وابن حبة هو الخبز، وابن طاب جنس من تمور الجنة. وبالنسبة لما يضاف إلى البنات، فبنت المطر هي دويبة حمراء تُرى غبّ المطر، وبنات الصدر ما يضمره الإنسان من خير وشر، وبنات الماء ما يألف الماء من السمك والضفادع، وبنات العين الدموع، ويدعم ما يورده بالأمثلة من الشعر والنثر وكلام العرب. ويخصص فصلاً للنساء تحت عنوان في ذكر النساء المضافات والمنسوبات يُتمثل بهن، يكتب فيه عن بنات طارق، بنات الحارث بن هشام، بنات نُصيب، زرقاء اليمامة، عجائز الجنة، عجوز اليمن، حمالة الحطب، خضراء الدمن، صواحب يوسف، ضرائر الحسناء، ويعقبه فصل آخر بعنوان فيما يضاف وينسب إلى النساء يضمنه:كيد النساء، نخلة مريم، رأي النساء، عرش بلقيس، شؤم البسوس، حمق دُغة، رغيف الحولاء، قوة الزّباء، يوم حليمة، برد العجوز، بيت عاتكة، حمام منجاب...الخ. وينساب السرد لدى الثعالبي ليمنح كل من يطالعه المعلومة بسهولة وسلاسة، فمن رغيف الحولاء الذي يكتب عنه من أمثال العرب أشأم من رغيف الحولاء ويحكي قصة المرأة الخبازة التي يعود إليها المثل، إلى قوة الزباء تلك المرأة من العماليق، إلى الكاهنة في برد العجوز وحتى حلوى أصابع زينب، يتعامل الثعالبي مع نصه بشغف، وهو الإحساس الذي ينجح تماماً في نقله للقارئ على اختلاف توجهاته أو أهدافه من مطالعة الكتاب. ويعود إلى منمنماته في باب بعنوانفي الأرض وما يضاف إليها، ليفتش وكأنه ابن الطبيعة عن كل ما يرتبط بهذه المفردة، فخبايا الأرض هي الزرع، وشحمة الأرض هي الموضع المريع منها، وسمع الأرض وبصرها من أمثال العرب، وجنة الأرض تقال لبغداد، وعرض الأرض من أمثال العرب، وأمانة الأرض مثل يضرب على الأمانة بلا حدود، وكتمان الأرض للتعبير عن السرية المطلقة، وحلية الأرض تعبير أطلق على مجموعة من المثقفين، و هناك خد الأرض وسرة الأرض وأديم الأرض وظهر الأرض وبطنها وجدري الأرض وبعل الأرض وسنام الأرض وحية الأرض، ودابة الأرض وأوتاد الأرض، وتتراوح الاستشهادات بين التاريخي والديني والأخلاقي، يقول تحت كتمان الأرض:قال ابن المعتز في الفصول القصار: لا تذكر الميت بسوء فتكون الأرض أكنم عليه منك. تنوع وتعدد كان الثعالبي يكتب وهو يعي أنه لا حدود للمعرفة، ففي كتاب شهير آخر له بعنوان التمثيل والمحاضرة، ويتناول الأمثال والحكمة، يقول عن طبيعة كتابه: إسلامي جاهلي، عربي وعجمي، ملوكي سوقي، خاصي عاصي، يشتمل على أمثال الجميع، ويضم نشر ما يجري مجراها من ألفاظهم، ويتضمن ما يأخذ مأخذها من فرائد النثر وقلائد النظم...ويوجد فيه ما يتمثل به من القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وجوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام الأنبياء، وكلام الصحابة والتابعين، وعيون أمثال العرب والعجم، وما يناسبها وما يشاكلها من نتف الخلفاء، وفقر الملوك والوزراء، ونكت الزهاد والحكماء. ويتجول الثعالبي في هذا الكتاب بين الأمثال والحكم، فهو يأتي بالنموذج ثم يستشهد عليه من الشعراء والكتاب والمتصوفة...الخ، وكثيراً ما نراه ينقل عن بسطاء الناس، أقوالهم وحكاياتهم، فالهدف أدبي وأيضاً تربوي وتعليمي، تحت عنوان كلامهم عند وفاة الإسكندر: لما جعل في تابوت ذهب تقدم إليه أحدهم فقال: قد كان الإسكندر يخبئ الذهب، وقد أصبح يخبئه الذهب. وتقدم إليه آخر فقال: قد كان يعظنا في حياته، وهو اليوم أوعظ منه أمس. وتقدم إليه آخر فقال: قد جاب الأرضين وملكها، ثم حصل منها على أربعة أذرع. ووقف عليه آخر فقال: انظر إلى حلم النائم كيف انقضى، وإلى ظل الغمام كيف انجلى. ووقف عليه آخر فقال: قد أمات هذا الميت كثيراً من الناس لئلا يموت وقد مات الآن. وقال آخر: قد كان لا يقدر عنده الكلام، والآن لا يقدر عنده الصمت. وقال آخر: مالك لا ترغب بنفسك عن ضيق المكان، وقد كنت ترغب عن رحب البلاد. وقالت بنت دارا: ما علمت أن غالب أبي يُغلب. وقال رئيس الطباخين: قد نضدت النضائد، وأُلقيت الوسائد، ونصبت الموائد، ولست أرى عميد المجلس. في كلمات حكائية بسيطة يلخص بعضاً من حياة الإسكندر، ويتأملها من خلال واقعة الموت، ويستنطق الحكمة على لسان البسطاء. في هذا الكتاب أيضاً يجعلك الثعالبي تلهث وراء ما يورده من حكايات ربما لا يلتفت إليها الكثيرون وهم يقرؤون تراثنا، حكايات تتعلق بالعشاق والمحبين، بالتجار، بالعوام، بالمغنين، والعصا وحتى لاعبي الشطرنج. تصل مع الثعالبي إلى حالة تدفعك إلى التأمل في ما قاله زكي مبارك في كتابه النثر الفني في القرن الرابع: يمكن الحكم بأن القرن الرابع كان يمكن أن يُمحى أو يكاد لو لم يظفر بذلك الحافظ الأمين، وهو كلام بقدر ما فيه من إشادة بدور الرجل، بقدر ما ينطوي على التقليل من شأنه، حيث يتحول إلى مجرد خازن للأدب أو حارس له. مع أبي منصور الثعالبي نحن أمام كاتب له أسلوبه المميز جداً، حيث تجده في الكثير من المقاطع يبتعد عن السجع، ويكتب بلغة سلسة سريعة وبسيطة تأخذ العين، وحتى عندما يضطر إلى السجع فهو لا يستطرد فيه، لغة مميزة بمعايير عصره وأيضاً عصرنا، ونحن أمام رجل جمع مفردات ومنمنمات يطنطن الكثير من المعاصرين أنهم توصلوا إليها، فيكتبون متوهمين أنه لم يوجد من سبقهم في سرديات الماء ودلالات النار ورمزيات الحيوان، وهو عندما يكتب عن هذه المفردات لا تشعر أنه يختلف عنهم في شيء من حيث اللغة أو حتى الحفر في جذور المفردة، ونحن أمام رجل جمع منتخبات أدب عصره..غاص في بطون الكتب..واستمع إلى حكايات الناس.. وجلس في الصالونات الثقافية، وعكف على تدوين وتبويب كل هذا وقدمه، وهو الأهم في شكل أقرب إلى الحكائية الإمتاعية، ولا يمكن وصفه بأكثر مما قاله العماد الحنبلي في شذرات الذهب في أخبار من ذهب: أبو منصور الثعالبي عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري الأديب الشاعر، صاحب التصانيف السائرة في الدنيا.

مشاركة :