التسامح منظومة سلوكية، تهدف إلى التعامل الراقي مع الناس، وفق مبدأ المعاملة بالأحسن، انطلاقاً من قول الله: {ادفع بالتي هي أحسن}، وقوله سبحانه: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}، فهو مبدأ سلوكي يعزز قيم العفو والصفح والحلم والبر والإحسان وعفة اللسان، والمحافظة على الحقوق، وعدم الظلم والعدوان والإيذاء، وهي معانٍ عظيمة، جعلتها الشريعة الإسلامية من أبرز مظاهر الإسلام والإيمان، ففي الحديث النبوي: المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم. ومن ثمرات التسامح التسامي على حظوظ النفس، وعدم الانسياق وراء الغضب والانفعال وحب الانتقام والمشاعر الملتهبة، وكبح جماح التعصب والطائفية، ومنع اعتداء الأفراد بعضهم على بعض، بسبب الاختلافات الدينية أو المذهبية أو العرقية أو غيرها، وإلا تحوَّل المجتمع إلى غابة لا يحكمها قانون، وانقلب إلى ساحات تنازع واقتتال، وإنما يلجأ الأفراد إلى المؤسسات الشرطية والقضائية المنوط بها تنفيذ القانون ومعاقبة الخارجين عليه، وإعادة الحقوق لأصحابها، ومجازاة منتهكيها. وهكذا أيضاً في إطار التعامل بين الدول، فقد أمرت الشريعة الإسلامية بالجنوح للسلام متى جنح الآخرون إليه، قال تعالى: {وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها}، واتفقت المذاهب الأربعة على أنَّ للدولة المسلمة أن تبرم عقود الصلح مع الدول غير الإسلامية، متى تحققت المصلحة من ذلك، أي أن مجرد المصلحة كافية للمصالحة من دون حاجةٍ لوجود ضرورة ملحة لذلك. كما نص على ذلك الفقهاء الأجلاء، بل إن بعض الفقهاء يسمي هذه المصالحة جهاداً بالمعنى، لأن المقصود هو دفع الشر، وقد حصل، وفي ذلك دلالة واضحة على أهمية السلام في الموروث الإسلامي، وقد سمى الله تعالى في القرآن الكريم، صلح الحديبية، فتحاً مبيناً، لما نجم عنه من خير عظيم، وانتشار للأمن وحقن للدماء، وإقبال من الناس على الدين، فالإسلام دين السلام والأمان، وهو يلتزم بهذا المبدأ متى التزم الآخرون به، والتاريخ الإسلامي حافل بروح التسامح، كما شهد بذلك حتى المستشرقون. وهكذا في باب الحريات الفردية، فالتسامح فيها بعدم الاعتداء عليها والافتئات على المؤسسات الشرطية والقضائية، فقد وهب الله الإنسان الإرادة، وجعله محاسباً أمامه على ما يختار، فلا يجوز الاعتداء على إرادته، وإكراهه على ما لا يريد، قال تعالى: {لا إكراه في الدين}، ولا يجوز انتهاك خصوصيته، فمن أغلق عليه بيته، فرقيبه الله وهو حسيبه، طالما أن ضرره لا يتعدى على الآخرين. وهكذا في تعامل الفرد داخل المجتمع، فله إرادته الحرة، وهو مسؤول عنها أمام القانون إذا ارتكب ما يخل به، كما أن حساب كل أحد على الله، فليس لفرد أن يجبر آخر على فعل ما لا يريد، ولذلك نص الفقهاء على أن تغيير المنكر باليد ليس لآحاد الناس، وإنما للسلطات المسؤولة عن ذلك، لئلا يوكل ذلك إلى أفهام الناس وممارساتهم، فيعتدي بعضهم على بعض، وينتهك بعضهم حقوق بعض. وللدولة أن تسن ما تراه من قوانين مناسبة لضبط تصرفات الناس، بما يخدم مصالحهم التي أمر الشرع برعايتها، ويحدث الخلط هنا عند البعض في عدم التفريق بين كون الإنسان مختاراً، وبين كونه مسؤولاً عن اختياراته، وبين إرادته الحرة، ومسؤوليته عنها، فيفصل هذا عن هذا، والحقيقة أن الأمرين متلازمان، سواء في نطاق المجازاة الدنيوية عبر الأنظمة والقوانين، أو في نطاق الحساب الأخروي، باعتبار أن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، كما أن تقرير الحرية الفردية لا يتنافى مع دور المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية وغيرها في تعزيز القيم الإيجابية، ومعالجة القيم السلبية، ولا يتنافى مع دور الأفراد في التواصي بينهم على الخير والمعروف. إن العنف والإرهاب والطائفية والعنصرية والتعصب، أمراض فتاكة، تنخر في نسيج المجتمعات، وتهدد السلام، ومتى غزت هذه الأفكار العقول، قادتها إلى دهاليز مظلمة، وجرَّتها لارتكاب الجنايات، وسفك الدماء، وتفكيك الدول وتفتيتها، والواقع اليوم، خير شاهد على خطر هذه الأفكار وضررها على الأفراد والمجتمعات والدول، والإرهابيون لا يؤمنون بالتسامح، لأنه لا يخدم أجنداتهم، ولا يتوافق مع ما لديهم من أفكار عنف.. ولذلك، فهم يثيرون حولها زوابع من الشبهات، فيخلطون بين التسامح، الذي هو معاملة الناس بالحسنى، وبين الانتماء للهوية الإسلامية، وهذا خلط باطل، فالتمسك بالعقيدة الإسلامية والهوية الوطنية والاعتزاز بها، والمحافظة على الثقافة المحلية والعادات والتقاليد الأصيلة، لا يتنافى إطلاقاً مع المعاملة الحسنة مع أصحاب الثقافات والهويات الأخرى، والقرآن الكريم نصَّ صراحة على ذلك في قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين}، وهل التسامح إلا هذا؟! كما أن من مهددات التسامح، أدلجته، وجعله شعاراً لتمرير أجندات دخيلة، وفرض ثقافات بديلة، وطمس الهوية والثقافة المحلية، فإن خطورة هذه الأدلجة كبيرة، لأنها تجرف مفهوم التسامح عن مساره الصحيح، وتنفِّر الناس عنه، بجعله عنصر صدام، وليس عنصر تعايش، وهو يخدم صراع الحضارات، فحينما يكون التسامح أيدلوجيا لفرض ثقافة على أخرى، فإن مغبة ذلك كبيرة، لأنه يجعل التسامح أداة تصارع، بدلاً من كونه سلوكاً راقياً في التعامل.
مشاركة :