صحيفة وصف:في عام 1967 وبعد أيام على نهاية «حرب حزيران» قرر المؤرخ إبراهام شابيرا ومعه الكاتب عموس عوز إجراء مقابلات مع عدد من الجنود الإسرائيليين العائدين لتوهم من الحرب، لمعرفة ماذا تركت في نفوسهم من أثر، وكيف يرونها الآن بعد أن توقفت طبولها وخفت الاحتفالات الصاخبة بـ «انتصارهم التاريخي» على العرب. حصيلة الشهادات المسجلة على أشرطة صوتية، كان من المقرر نشرها في كتاب منفصل، لكن السلطات الإسرائيلية تدخلت وقتها ولم تسمح إلا بنشر ما يعادل 30 في المئة منها فقط، أما البقية فقد ظلت طي النسيان. بعد كل تلك السنوات يعود الوثائقي «أصوات ممنوعة» لنشرها بمشاركة بعض المساهمين فيها وبعد إضافته أشرطة نادرة وتسجيلات تلفزيونية قديمة (قسم كبير من تلك التسجيلات المصورة يعرض للمرة الأولى أمام الجمهور) وثّقت مشاهد مهمة من «حرب الأيام الستة» وما تبعها من عمليات عسكرية ضمت خلالها اسرائيل مساحات عربية واسعة اليها. معظم الجنود المشاركين في الحرب أصيبوا بصدمة من هول ما شاهدوه أمام أعينهم من ممارسات بشعة لجيشهم، أربكت كثيراً قناعاتهم بعدالة حربهم ولم يعودوا يصدقون بعدها «كذبة» الدفاع عن الوجود بعدما شاركوا بأنفسهم في احتلال أراضٍ غير «أراضيهم» وهجّروا الفلسطينيين وغيرهم من العرب من بيوتهم وقتلوا أسرى ومدنيين من دون رحمة، الى درجة اعتبر بعضهم أن ما قام به لا يختلف عن «الهولوكوست» الذي تعرض له اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. مجموع الشهادات يعطي صورة واضحة عن التناقض الذي كان يشعر به الجنود الإسرائيليون (جلهم من المتطوعين الشباب الوافدين من «كيبوتزات») وحالة الاغتراب عن مجتمعهم الظاهر في ميلهم الى الانطواء أو الانحياز القوي الى أفكار تدعو الى السلام ومناهضة الحرب كوسيلة لحل مشكلاتهم مع جيرانهم العرب بالضد تماماً من المزاج العدواني والشعور الصارخ بالتفوق الذي أفرزته نتائج حرب 67. يتدرج الوثائقي في الغور الى عمق المشكلات النفسية وحالات زعزعة اليقين عند الجنود المشاركين في الحرب بالتدريج، فيبدأ في نقل حوارات يصف أصحابها الفرق الكبير الذي طرأ على سلوكهم وتفكيرهم بعد الحرب، وأنهم لن يعودوا كما كانوا عليه من قبل أبداً. ثمة تحول وتغير دراماتيكي يصعب على كثيرين منهم نقله الى آلة التسجيل فيما كان بعضهم واضحاً بخاصة أولئك الذين خاضوا الحرب في أكثر من مكان. غالبية الجنود الذي انتقلوا من جبهات القتال في مصر الى خارجها لم يفهموا لماذا كان عليهم احتلال مرتفعات الجولان السورية والضفة الغربية ولماذا كانوا يقتلون الجنود المصريين المنسحبين أصلاً؟ ينقل الوثائقي الذي قدمه التلفزيون السويدي، لحظة مواجهة الجنود الإسرائيليين للـ «عدو» المخيف كما صوره لهم قادتهم، أثناء دخولهم سيناء ووصولهم الى قناة السويس. لكنهم وجدوا هناك جنوداً بسطاء، بشراً لا وحوشاً. جنود عاديون كان يحتفظ كثيرون منهم بصور أولاده في محفظته ولا يبدو عليهم المكر أو العدوانية. على العكس كما قال أحد المقيمين في «كيبوتز» ميشمار هاشارون: «طالما قدمنا أنفسنا للعالم كضعفاء ومساكين لكننا نجد اليوم أمامنا بشراً هم بحق ضعفاء، ومع ذلك نعاملهم بوحشية وأكثر من هذا نبرر لأنفسنا قتلهم». يجتمع كل المشاركين في المقابلات على أن أوامر القادة التي كانت تصل اليهم تدعو الى قتل كل عربي يقابلهم؛ مدنياً كان أم عسكرياً، رجلاً أم أمراة لكنها لم تكن واضحة بل كانت مبطنة بشعار «لا تكونوا رحيمين معهم!». يقدم أحد الجنود شهادته عن قتل أفراد وحدة تفتيش اسرائيلية رجالاً بلا سلاح في الصحراء الأردنية «كان المهجرون يسيرون في طريقهم الى منطقة خارج قريتهم. فتشناهم ولم نجد لديهم أسلحة. بعد مدة رأينا دورية اسرائيلية أخرى توقفهم وتقتاد الرجال خلف التلال الرملية لتقتلهم». جنود وحدة المظليات الأقسى بين بقية وحدات الجيش الإسرائيلي، تحكي شهادات المتطوعين فيها فظاعات المنتسبين اليها. في احدى المرات، كما قال جندي أدلى بشهادته «وإثر خسارة احدى فرقهم جندياً في القتال، قرروا الانتقام له على الشكل الآتي: طلبوا من 50 أسيراً عربياً حفر حفرة واسعة في الأرض الرملية وبعد الانتهاء منها أطلقوا النار عليهم ودفنوهم داخلها بدم بارد». في القدس كان الأمر مختلفاً فقد امتزجت مشاعر النصر بالموروث الديني وأثار وجودهم للمرة الأولى عند حائط المبكى مشاعر متناقضة تجلت في شهادات المشاركين فيها. واحدة من التناقضات الصارخة أن وسائل الإعلام الإسرائيلية صوّرت بعض صلوات الجنود عند حائط المبكى كما لو أنه عودة جماعية الى التاريخ اليهودي وكتابته مجدداً في حين نام كثيرون منهم تحت ظله من دون صلاة نتيجة التعب ولم يفهموا لماذا كل هذا التباكي على «حائط أصم؟». يشعر تقريباً كل المشاركين في التسجيلات بإحساس قوي بالندم وبانتهاك ملكية غيرهم بل يذهب بعضهم الى وصف نفسه صراحة بـ «المحتل»، وأن سلوكه العدواني لن يؤمن له مستقبلاً جيداً. فالحرب كما توقع كثيرون ستعود ثانية ما دام قد قتلوا وانتهكوا خلالها حرمات غيرهم وهجروا السكان الأصليين من بيوتهم. وجوه المساهمين في المقابلات، تشي بالحزن والندم لمشاركتهم في حرب حققت نصراً مهماً لهم لكنها خبأت داخلها حروباً مستقبلية وعداوات لن تنتهي بنهايتها.
مشاركة :