هيروشيما... جرح لم يندمل

  • 6/1/2016
  • 00:00
  • 24
  • 0
  • 0
news-picture

زيارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، هيروشيما في 27 أيار (مايو) الجاري، تنكأ جرحاً أليماً وذكرى محرجة في الولايات المتحدة واليابان، على حد سواء. فألم الدمار المولود من نيران الانفجار (قضى 140 ألف نسمة على الفور وفي الأسابيع التالية على إلقاء القنبلة) لم يكن وليد لحظة انقضت: وطوال عقود، نازع عشرات آلاف من المصابين بالإشعاعات النووية، وامتد احتضارهم ولفظهم الأنفاس الأخيرة على عشرات السنين. وهي ذكرى محرجة ومربكة في أميركا نتيجة الطعن في الحاجة إلى قصف هيروشيما في 6 آب (أغسطس) 1945، وبعد 3 أيام قصف ناغازاكي (70 ألف قتيل). وهي كذلك ذكرى محرجة في اليابان التي تجاهلت طوال سنوات معاناة «المشعين» (المصابين بالإشعاع النووي) قبل أن تتبنى معاناتهم من أجل محو آثام الماضي والظهور في مظهر الضحية الصرفة. وأعلن البيت الأبيض أن الزيارة لن تحمل اعتذاراً أميركياً، وأنها «تكرم ذكرى الضحايا الأبرياء. والحكومة اليابانية لم تطالب بمثل هذا الاعتذار. وعلى خلاف ألمانيا وفرنسا جاك شيراك في مسألة اعتقال آلاف اليهود الباريسيين في فرنسا فيشي وترحيلهم، واليابان التي أبدت الندم عن ماضيها في الدول التي غزتها واحتلتها، ليس الاعتذار شيم الولايات المتحدة. ويبدو أن الندم أو التوبة يخالفان فكرة البلد عن نفسه. ويعصى الأميركيين إبداء الندم عن آخر «حرب ظافرة» خاضتها بلادهم، على قول المؤرخ الأميركي جون دبليو دوير في كتابه «سبل النسيان، وسبل التذكر: اليابان في العصر الحديث» الصادر عن دار «نيو برس» 2012. واللجوء إلى السلاح النووي كان «ضرورياً» لحمل اليابان على الاستسلام وإنقاذ عشرات آلاف الجنود الأميركيين من الموت المحتم في الغزو البري للأرخبيل الياباني: على هذا المنوال سوّغ الرئيس الأميركي حينها، هاري ترومان، القصف الذري على بلدتين مكتظتين بالسكان. ونظرة الأميركيين إلى اليابانيين يسرت قرار القصف. «كان شاغلهم الطابع الشيطاني لليابانيين»، كتب جون دوير في «حرب من غير رحمة: العرق والقوة في حرب الهادئ» الصادر عن دار بانتيون بوكس، في 1986. ومنذ 1946، طعنت اللجنة الأميركية لشؤون القصف الاستراتيجي، وكبار الضباط في مسوغات الضربة. وفي مقابلة مع نيوزويك في 1963، قال الجنرال دوايت إيزنهاور (الرئيس الأميركي السابق) إن اليابان كانت تسعى في تلك اللحظة (صيف 1945) إلى الاستسلام من دون أن تخسر ماء الوجه. و»لم يكن قصفها بهذا الشيء المقيت ضرورياً». وكتب الأميرال ويليام ليهي في «كنت هناك» («ويتلسي هاوس، 1950)، «حين استخدام هذا السلاح، التزمنا أخلاقاً تليق ببرابرة عصر الظلمات». فهيروشيما وناغازاكي هما أعلى درجات الرعب. وإثر زيارته هيروشيما، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1945، كتب مراسل «لوموند»، روبير غييان، «أشعر بالخزي... خزي الغرب، وخزي العلم وخزي الإنسان». وإذا لم يكن التوسل بالقنبلة الذرية ضرورة لا غنى عنها، فلماذا ألقيت؟ لا شك في أن رغبة الولايات المتحدة في اختبار القنبلة الذرية قبل دخول الاتحاد السوفياتي الحرب على اليابان، وإثبات تفوقها العسكري، كانا عاملين حاسمين. ولكن النظرة إلى القنبلة على أنها المخلصة والمناص الأخير صارت أسطورة أميركية: قبل الذكرى الخمسين للقصف الذري في 1995، استبعد معرض نظمه معهد سميثسونين في واشنطن للمقاتلة «بي -29 إينولا غاي» التعليقات التي تطعن في دور هذه العملية الراجح في غلبة الديموقراطية والحرية. وحالت رقابة المحتل الأميركي دون معرفة اليابانيين حقيقة ما حدث قبل نهاية الاربعينات من القرن الماضي، ورمت (الرقابة) إلى حفظ سر عسكري والسيطرة على البلاد من طريق تجنب إذكاء نيران نقمة المغلوبين، والحؤول دون حصول من يسعى إلى تخفيف وقع ارتكابات الجيش الامبراطوري الياباني على بيّنات تدين أميركا. وحُرم ضحايا القنبلتين الذريتين من العناية الصحية، واكتفى المحتل بمصادرة جثامين الموتى لتشريحها وأخذ عينات من المصابين لدرس الآثار البيولوجية للنار النووية. وتشعر اليابان بالحرج في ذكرى هيروشيما وناغازاكي، فهي لم تغث ضحايا الإشعاع النووي قبل 1952، السنة التي استعاد فيها الارخبيل استقلاله. وطوال 7 سنوات، ترك هؤلاء لمصيرهم، وبادر أطباء وممرضون إلى علاجهم، على رغم أنهم لا يعرفون السبيل لتطبيب أجساد محروقة ومسلوخة الجلد. ونبذ اليابانيون «المشعين»، واعتبروا أنهم ملوثون بـ «مرض غامض». وفي 1957، أرسي نظام لمساعدة ضحايا القنبلتين النوويتين. ولكن كثراً منهم رفضوا تسجيل أسمائهم في هذا البرنامج، وتمسكوا بحقهم الوحيد: التزام الصمت. وترافق النبذ مع إقصاء عنصري لثلاثين ألف كوري في عشوائيات مثل عشوائية موتوماشي في هيروشيما. وليست صور البؤس الاجتماعي في الأعوام التي تلت القصف، موثقة في معرض السلام. وصرخة الشاعر المشع (المصاب بالشعاع):» ردوا لنا إنسانيتنا»، تنقل معاناة ضحايا الشعاع الذري وتلخصها. وأول لوحات تناولت آثار القصف هي لوحات الزوجين ماروكي اللذين وصلا إلى هيروشيما في اليوم التالي على القصف. وشرَّع جمع شهادات الأطباء في «تاكاشي ناغاي» (أجراس ناغازاكي، دار كاسترمن، 1954) وميشيهيكو هاشايا (يوميات هيروشيما. 6 آب (أغسطس) 1945، دار تالاندييه، 2015)، الباب أمام نشر ذكريات المصابين بالإشعاع النووي. ونقلت رواية «مطر أسود» (غاليمار، 1972) لصاحبها ماسوجي إيبوز، معاناتهم إلى عالم الأدب. وساهم اكتشاف اليابنيين فظاعة النيران النووية في بروز عدد من العوامل: نزول اليابان في مكانة الضحية، ونشأة حركة سلمية محورها التخلص من السلاح النووي، والافتتان بالعلم. ونسبت الهزيمة إلى تفوق الولايات المتحدة التكنولوجي، وصارت القنبلة الذرية رمز الفظاعة وثمار العلوم الواعدة، في آن. وبادرت اليابان، أول بلد «مذرر» (مصاب بالشعاع الذري)، إلى تطوير الطاقة النووية المدنية من غير أن تستبعد احتمال حيازة القنبلة النووية يوماً ما. وفي متحف السلام في هيروشيما، تعدد الحوادث السابقة للقصف، لكنها تبدو وكأنها من بنات فراغ تاريخي مقارنة بهول القصف العصي على الإدراك. ففي هيروشيما وناغازاكي «تلتبس الحدود بين التاريخ والذاكرة»، كتب ميكاييل لوكن في «اليابانيون والحرب»، دار فايار، 2013. ويقر اليابانيون، في معظمهم، بانتهاكات الجيش الامبراطوري، ولكنهم يشعرون بأنهم ضحايا وليسوا بجناة. وولد من إرثهم التاريخي المزدوج نازعهم السلمي وتمسكهم بالبند التاسع من الدستور الذي يحظر شن الحرب- وحكومة شينزو آبي تسعى إلى تعديل البند هذا. وعلى ضفتي المحيط الهادئ، لا يرغب أحد في تناول دواعي القصف والمسؤوليات عنه. «فما يترتب على اعتذار الرئيس أوباما، هو اعتذار رئيس الوزراء الياباني آبي عن انتهاكات الجيش الامبراطوري. لذا، يسعى الجميع إلى تبديد المسؤوليات»، يقول المؤرخ يوكي تاناكا، الباحث في مركز «من أجل السلام في هيروشيما» الذي وجه رسالة باسم ضحايا هيروشيما الى إلرئيس الأميركي ودعاه إلى الاعتذار عن «جريمة (بلاده) ضد الإنسانية».     * مراسل، عن «لوموند» الفرنسية، 21/5/2016، إعداد منال نحاس

مشاركة :