لو سألنا كاتبا أدبيا عن نوع القارئ الذي يسعى لأن يكون من قرائه لأجاب: إن قارئه المثالي من يتوفر على قدر من الألفة لقراءة عمل أدبي؛ أي قدر من الإحساس والفهم لخلفية العمل الأدبي. يريد الكاتب قارئا يملك نوع الإطار الذي ندعوه المعارف الأدبية الأولية. لن يتوقع الكاتب قارئا قادرا على أن ينتج عملا أدبيا؛ إنما يتوقع قارئا قادرا على أن يقرأ عملا أدبيا ويستمتع به. وأود أن أقول على المنوال نفسه إن الكتاب ليس لهم أن يحاولوا خلق قراء قادرين على أن يكتبوا أعمالا أدبية أو إبداعية، وما ينشدونه هو جمهور من القراء قادرون على أن يناقشوا قضايا أدبية وإبداعية ذات صلة بالأدب والإبداع. بتعبير آخر: جمهور من القراء تتوفر عنده المعارف الأدبية الأولية. يتألف إطار المعارف الأدبية الأولية من ثلاثة عناصر: الأول هو: معرفة المفاهيم التي لا تتغير أهميتها مع الزمن. يحتل هذا العنصر الأول مكان القلب من المعارف الأدبية الأولية كالأنواع الأدبية، والفرق بين اللغة الأدبية وغيرها من اللغات. إن هذه المفاهيم هي لب فهمنا للأدب، وهي الهيكل الأساسي الذي تبنى عليه الثقافة الأدبية. ليس معنى هذا أن هذه المفاهيم محصنة ضد التغيير، إنما المعنى أن تغيرها يأخذ شكل وضعها في نوع أدبي، وليس إبدالها بمفهوم جديد. فالحديث عن الأشكال السردية كالقصة القصيرة أو القصة القصيرة جدا أو الرواية، مثلما هو الحديث عن الأشكال الشعرية كالشعر العمودي أو التفعيلة أو قصيدة النثر، هو حديث عن أشكال أدبية معاصرة لنا، فما زال يعيش بيننا ممثلون لهذه الأشكال القديمة والحديثة، قاصون وروائيون وكذلك شعراء يكتبون الشعر العمودي والتفعيلة وقصيدة النثر. غير أن هذه الأشكال الأدبية سردية كانت أو شعرية، لا تشترك في تاريخ نشأتها، ومعظم هذه الأشكال الأدبية لم تكن موجودة، فالرواية مثلا لم تكن موجودة قبل عام 1930 في الأدب السعودي الحديث، وكذلك شعر التفعيلة وقصيدة النثر. ما يميز الأشكال الأدبية هو أن كل شكل أدبي جديد تتاح له الظروف على أن ينتشر ويسود، وربما يحتل مركز الصدارة في الكتابة والنشر والتوزيع كما يحدث للرواية الآن، لكن ما يجعل الأشكال الأدبية فريدة من نوعها هو أن انتشار وذيوع أي شكل أدبي لا يقضي على الشكل الأدبي الأقدم منه. على سبيل المثال: حينما انتشرت كتابة ونشر قصيدة التفعيلة، لم تقض على القصيدة العمودية، وحينما شاعت الآن كتابة ونشر قصيدة النثر لم تلغ قصيدة التفعيلة، مثلما هي الرواية الآن التي تحتل صدارة المشهد لم تستطع أن تنهي كتابة القصة القصيرة. هكذا إذن، فبإمكان أي شكل من الأشكال الأدبية أن يستمر، وأن يتصدر أي مشهد ثقافي كتابة ونشرا، وأن يعيش إلى مالا نهاية، وإذا كنا قد فكرنا في لحظة ما أن شكلا أدبيا قد قضي عليه كالمقامة مثلا، فإننا سنجد من يمثله الآن، وما ينشر الآن لعائض القرني (مقامات القرني) وما نشره في ملحق الرسالة قبل مدة ليست بعيدة يشير إلى عودة ذلك الشكل حتى لو فرغ من مضمونه، وانحط إلى أدنى شكل يمكن أن يكتب به. ربما كان السبب في تعاصر الأشكال الأدبية القديمة والجديدة وتعايشها، يعود إلى أن تاريخها يختلف عن تاريخ العلوم، ومع الأخذ في الاعتبار ما تحدث به بعض مؤرخي العلوم عن بنية الثورات العلمية، أو ما تحدثوا به عن قابلية النظريات العلمية للتكذيب، إلا أن تاريخ العلم يستند إلى التخلي عن الأخطاء، ودمج النتائج التي ظلت صحيحة، بعد أن تدخل ضمن إطار نظري جديد. يختلف تاريخ الأشكال الأدبية عن تاريخ العلم. يشبه تاريخ الأشكال الأدبية تاريخ الفلسفة عند بعض مؤرخيها؛ فمثلما يدور صراع من أجل سيادة أشكال فلسفية جديدة على أخرى قديمة من غير أن تلغيها، كذلك هي الأشكال الأدبية، فالصراع بينها يكون من أجل السيادة وليس من أجل الإلغاء. إذا كان ذلك كذلك، فلا يمكننا الحديث عن موت الأشكال الأدبية، ذلك أن الشكل الأدبي لا يقضى عليه، ولا يمحى من الوجود، وهو قادر في كل مرة على أن ينهض من جديد، ينهض متى ما توفرت الظروف، وبالتالي فالحديث عن موت شكل أدبي هو حديث غير دقيق، ذلك أن الأشكال الأدبية كالبشر مجبرة على أن تتعايش بالرغم من أن بعضها يعيش مقهورا. إذا تحركنا بعيدا عن المفاهيم الأدبية الجوهرية التي تمثل القلب، ندخل ما يشبه المنطقة الرمادية، وإذا تحركنا أبعد فسوف نصل إلى منطقة مثيرة هي العنصر الثاني؛ أعني فهم عمليات القراءة والكتابة؛ حيث نمو الأفكار عملية جارية. تولد أفكار وتذوي أخرى في صراع وجود. إن الجانب الأعظم من البحوث الأدبية الأساسية تتم في هذه المنطقة، حيث تظهر الأفكار المتعلقة بعمليات القراءة والكتابة. إنه نطاق عمل مثير. وليس للقارئ أن يدهش أن النقاد ودارسي الأدب المتخصصين يتناقشون لاقتناص هذا المكان المتاح نسبيا. تتناول الدراسات في هذه المنطقة العادات القرائية، والإستراتيجيات الخاصة بالعمل الأدبي. تجربة القارئ في قراءة العمل الأدبي، وفكرته عما يمكن أن يفعله الكاتب وهو يكتب النوع الأدبي ما يمكن القارئ من القراءة من غير أي تحيز. إن قارئا قرأ قدرا كبيرا من كتب الأدب، لهو أكثر استعدادا لأن يفهم العمل الأدبي الذي يقرؤه أفضل من الشخص الذي لم يقرأ أي عمل أدبي. أما العنصر الثالث فهو فهم تأثير الأدب في الإنسان وفي المجتمع. كتب ماريو بارغاس يوسا (فائز بنوبل للأدب 2010) في مقال عنوانه لماذا نقرأ الأدب؟. إني مقتنع بأن مجتمعا بلا أدب، أو مجتمعا يرمي الأدب - كخطيئة خفية - إلى حدود الحياة الشخصية والاجتماعية هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته. ليس الأدب نشاطا للمترفين؛ إنما هو نشاط لا يستغنى عنه لتشكيل المواطنين في مجتمع حديث وديموقراطي؛ أي مجتمع مواطنين أحرار. يتعرف البشر من خلال الأدب على أنفسهم وعلى الآخرين؛ بغض النظر عن اختلاف وظائفهم، وخطط حياتهم، وأمكنتهم الجغرافية والثقافية، أو حتى ظروفهم الشخصية. يساعد الأدب الأفراد على أن يتجاوزوا التاريخ، ويفهموا بعضا بعضا عبر الزمان والمكان. لا شيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي يظهرها الأدب؛ أي أن كل الأمم متساوية، وأن الظلم هو ما يزرع التفرقة والخوف والاستغلال. لا يوجد من يعلم البشر أفضل من الأدب أن يروا - برغم فروقاتهم العرقية والاجتماعية - ثراء الجنس البشري. لا يوجد مثيل للأدب يجعلنا نكافئ ونمجد فروقنا من حيث هي مظهر من مظاهر الإبداع الإنساني متعدد الأوجه. الأدب مصدر ليعرف البشر أنفسهم وتكوينهم عبر أفعالهم وأحلامهم وما يخافون منه. _________________ * ناقد سعودي
مشاركة :