استمرار حالة الجدل الديني والاجتماعي في الدول العربية والإسلامية حول تغطية وجوه النساء، ومدى فرضية ذلك يدفعنا هنا إلى بيان الموقف الشرعي الصحيح من النقاب الذي جعله بعض الجاهلين بشريعة الإسلامية من الواجبات الشرعية على المرأة، واعتبروا كل امرأة لا تحرص عليه أو تلتزم به خارجة على تعاليم الإسلام. علماء الشريعة الإسلامية يحسمون هذا الجدل هنا، ويوضحون الرأي الشرعي الصحيح ويجيبون عن سؤال مهم هو: هل وجوه النساء عورة يجب تغطيتها؟ في البداية تؤكد الفقيهة الأزهرية د. سعاد صالح أستاذة الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن شريعة الإسلام لم تفرض على النساء تغطية وجوههن، وتقول: لقد اتفق الفقهاء على أن جسد المرأة عورة، ما عدا الوجه والكفين وهما اللذان استثناهما الخالق عز وجل في الآية الكريمة ... وقل للنساء يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، فالمراد بعبارة ما ظهر منها كما قال جمهور الفقهاء: الوجه والكفان. تحذير من الخلط وتحذر د. سعاد من الخلط بين المفاهيم والمصطلحات الفقهية وتقول: المباح لا يجوز أن يتحول إلى واجب، وإذا كان بعض الفقهاء قد أباحوا لبعض النساء في بعض البيئات تغطية وجوههن، بقصد حماية المرأة والحفاظ على عفتها، والحرص على السلامة الاجتماعية، ومواجهة النهم الجنسي لبعض الرجال، فلا يجوز أن تتحول هذه الإباحة إلى واجب شرعي نلزم به كل النساء، إذ لا يجوز فرض أمر على المسلمين رجالاً أو نساء إلا بنص شرعي صريح. ومن هنا تؤكد أستاذة الشريعة الإسلامية بالأزهر أن النقاب ثقافة وافدة على بعض المجتمعات العربية، وهذا التوصيف ليس حرباً على النقاب كما يعتقد البعض، وليس تحقيراً من شأنه فمعظم عالمات الجامعة الأزهرية لسن منتقبات، كما أن زوجات وبنات كبار علماء الأزهر الذين درسوا الإسلام وفهموه جيداً، وطبقوه على حياتهم العامة والخاصة، لم يكن منتقبات، وهذا يؤكد أن النقاب ليس بفرض، حيث لا توجد نصوص شرعية تفرض على المرأة تغطية وجهها. فوضى الإفتاء المفكر الإسلامي د. محمود حمدي زقزوق عضو هيئة كبار العلماء ووزير الأوقاف المصري الأسبق يضم صوته إلى صوت د. سعاد صالح، ويؤكد أن النقاب ليس بفرض وأن تغطية وجوه النساء ليس واجباً دينياً كما يعتقد البعض، ولذلك يؤكد ضرورة مواجهة الأحكام الشرعية الخاطئة التي روج لها بعض دعاة التطرف الذين ابتلينا بهم في عالمنا العربي خلال السنوات الماضية، نتيجة الفوضى التي شهدتها ساحة الدعوة الإسلامية، وتصدى غير المؤهلين للإفتاء وبيان الأحكام الشرعية للناس فحرموا الحلال، وحللوا الحرام، وضيقوا على الناس ما وسعه الله عليهم، وخلطوا أحكام الشريعة الإسلامية وهي أحكام وسطية معتدلة بما سماه بعض العلماء فقه البداوة. ومن خلال دراسته المستوعبة للشريعة الإسلامية يؤكد د. زقزوق أن تغطية وجوه النساء ليست من الواجبات الشرعية، وأن التوصيف الشرعي للنقاب أنه مجرد عادة قد تكون من العادات الطيبة أو الفضائل السلوكية إذا ما ترتب على كشف وجه امرأة معينة فتنة بين الرجال، وقد لا يكون سبباً للحرج إذا لم تكن له ضرورة وتسبب في تعويق مسيرة المرأة وقيامها بواجباتها الحياتية والوظيفية، كالتي تعمل في مهنة التمريض وتتسبب تغطية وجهها في تلويث ثيابها ونقل العدوى للمرضى، أو إثارة الشكوك فيها، حيث يجب اتخاذ كل ما يبعث الثقة في نفس المريض لمساعدته على الشفاء. وهنا يحذر عضو هيئة كبار العلماء من إلباس اجتهادات البعض المتطرفة أو غير المنضبطة بقواعد الشريعة وضوابطها ثوب الشريعة ،وكأن هؤلاء الذين ابتلينا بهم في الفضائيات الدينية يتحدثون باسم الله ورسوله، ويؤكد أن الأحكام الشرعية تستمد من تعاليم الدين الصحيحة، وليس من اجتهادات خاطئة، أو عادات وتقاليد متوارثة، ويقول: لا يوجد في تعاليم الدين ما يفرض على المرأة أن تغطي وجهها، ولا يوجد في تعاليم الدين الصحيحة ما يفرض على الممرضات في المستشفيات وتلميذات المرحلة الإعدادية والثانوية تغطية وجوههن، كما شاهدنا في مصر خلال السنوات الأخيرة. أدلة واهية ويستشهد د. زقزوق في تأكيد أن النقاب عادة وليس عبادة بما قاله عالم كبير له رصيده من العلم والفقه والثقافة، وحرصه على الثوابت الإسلامية وهو الداعية الراحل الشيخ محمد الغزالي الذي قال حرفياً: إن المعارضين لكشف وجه المرأة يتمسكون بأدلة واهية، ويتصرفون في قضايا المرأة كلها على نحو يهز الكيان الروحي والثقافي والاجتماعي لأمة أكلها الجهل والاعوجاج، لما حكمت على المرأة بالموت الأدبي والعلمي. ويقول د. زقزوق معقباً على كلمات الشيخ الغزالي: شيخنا الجليل الذي عرف بحرصه على كل قيم وأخلاقيات وثوابت الإسلام، يعني أن إخفاء وجه المرأة يعد حلقة في سلسلة متواصلة من الظلم الاجتماعي للمرأة الذي حكم عليها بالموت الأدبي والعلمي انطلاقاً من جهل بالدين، وانحراف عن تعاليمه الصحيحة. ويضيف: الحق أن هناك عادات وتقاليد بالية تريد أن تفرض نفسها على أحكام شريعتنا، ومن بينها إخفاء وجه المرأة تحت نقاب لم يفرضه الشرع، حيث لا يوجد في القرآن الكريم، ولا في السنة الشريفة، ولا في اجتهادات فقهاء المسلمين ما يجعل النقاب فريضة على المرأة، أو عبادة لا بد أن تحرص عليها، لأن العبادة لا تكون إلا بنص صريح. لقد أمر الإسلام المسلمين بغض البصر، وغض البصر لا يكون إلا عند مطالعة الوجوه، فإذا كانت وجوه النساء مغطاة فمم يغض المؤمنون أبصارهم؟ ويرى د. زقزوق أن ظاهرة انتشار النقاب في بلادنا العربية والإسلامية، خاصة بين أوساط لا تحرص كثيراً على القيم والأخلاقيات الإسلامية ولا تلتزم بأداء العبادات كما ينبغي، يجب أن تحظى بدراسات جادة من جانب علماء النفس والتربية والاجتماع في بلادنا العربية والإسلامية للوقوف على الدوافع الحقيقية لنقاب فئات غير مدركة للحقائق الإسلامية، وغير ملتزمة بتعاليم وآداب الإسلام في حياتها الخاصة. تجاوزات سلوكية تعود د. سعاد صالح لتوضح مواصفات الزي الشرعي الصحيح وتقول: الإسلام أمر المرأة أن تلتزم في ثيابها وسلوكها خارج المنزل بكل ما يحفظ كرامتها، ويصون عفافها، ويحميها ويحمي المجتمع كله من الإسفاف والابتذال، والمطلوب من المرأة كما قال فقهاء الإسلام أن ترتدي الملابس التي تستر عورتها، وتحافظ على كرامتها، وقالوا إن بدن المرأة عورة ماعدا الوجه والكفين، ولو وصلنا إلى مرحلة إقناع بناتنا وزوجاتنا بذلك نكون قد حققنا أفضل ما يطالبنا به ديننا، خاصة في ظل البعد عن تعاليم وأخلاقيات وآداب الإسلام بين الناس ومنهم فئة كبيرة من النساء. وتقول: لا يجوز لأحد الآن أن يزعم أن فرض النقاب على موظفات أو تلميذات في المدارس، أو ممرضات في مستشفيات، هو واجب كل الرجال، أو يدعي أن ذلك علامة على التدين والورع والتقوى، ولا يحق لأحد أن يرى في ذلك حرية شخصية لا دخل للآخرين فيها.. فحرية الإنسان لا ينبغي أن يترتب عليها ضرر للمجتمع، وقد استغل النقاب في العديد من الدول العربية والإسلامية في ارتكاب جرائم، وفي تجاوزات سلوكية وأخلاقية، حيث احتمى به اللصوص وبعض القتلة والمنحرفين أخلاقياً، وما ينشر في الصحف من جرائم متلاحقة عن تستر مرتكبيها خلف النقاب خير دليل على ذلك. وينتهي عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر إلى القول بعدم فرضية النقاب، وفقاً لما قال به جمهور الفقهاء.. فالمرأة مادامت تلبس الملابس المحتشمة التي لا تصف شيئاً من جسدها ولا تكشف شيئاً منه سوى وجهها وكفيها، فإن لباسها في هذه الحالة يكون لباساً شرعياً صحيحاً، وأن المرأة التي تستر جسدها بأي لباس ساتر، وتكشف عن وجهها وكفيها ليست آثمة ولا مخالفة لتعاليم وأحكام دينها. الزي الشرعي د. علي جمعة مفتي مصر السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر يؤكد أن المشروع في مسألة لباس المرأة هو الحجاب وليس النقاب، ويقول: فضلاً عن الآية القرآنية التي استدل بها جمهور الفقهاء على عدم فرضية النقاب وهي قوله تعالى: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن... هناك الحديث الصحيح الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها الرسول وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا.. وأشار إلى وجهه وكفيه ، صلى الله عليه وسلم. وهنا يوضح د. علي جمعة أن الزي الشرعي المطلوب من المرأة المسلمة هو كل زي لا يصف مفاتن الجسد ولا يشف، ويستر الجسم كله ما عدا الوجه والكفين، ولذلك لا مانع من أن تلبس المرأة الملابس الملونة الجميلة بشرط ألا تكون لافتة للنظر أو مثيرة للفتنة.. فإذا تحققت هذه الشروط على أي لباس جاز للمرأة المسلمة أن ترتديه وتخرج به. ويضيف مفتي مصر: أما النقاب الذي يغطي الوجه، فالصحيح أنه ليس واجباً، وأن عورة المرأة المسلمة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين، فيجوز لها كشفهما.. هذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم من العلماء القدامى والمعاصرين. وأشار مفتي مصر السابق إلى دراسة فقهية أعدتها دار الإفتاء المصرية انتهت فيها إلى أن قضية ثياب المرأة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعادات الشعوب، حيث تختلف الثياب من بلد إلى آخر في مواصفاتها وأشكالها بعيداً عن شرعيتها، فهناك مجتمعات عربية أو إسلامية قد يتفق النقاب مع عاداتها وتقاليدها، وهنا لا مانع شرعاً من الحرص عليه لأنه يدعم قيماً اجتماعية موجودة ومتأصلة في المجتمع، أما دينياً فإن شريعتنا لم تفرض على النساء لباساً واجباً بمواصفات معينة.
مشاركة :