تخلد ذاكرة المكان، شكل أيام الشهر الكريم، وتحفظ له معالمه وطقوسه، لتحلق أرواح المسلمين ونفوسهم، في سماء الرحمة، تقتبس من نوره الكريم المغفرة، وترجو التعرض لها، فتتمايز الطقوس بالمكان، وتخلق كل جماعة وفئة وشعب قيمه وعاداته، وإن تلاقت في مجملها وتأطرت في محاور واحدة، تترجم العبادة إلى سلوك، وتحيل الروحانيات إلى طقوس ملموسة، وتمزجها برائحة المكان ورغبات الأفراد، فتختلط عادات تناول الطعام بطقوس العبادة والتقرب، وتتمايز أنواعها عن غيره من شهور السنة، فتربط الذاكرة بها، فيتسارع إلى الأذهان عطره الندي ورحماته المتناثرة في المكان عند التعرض لبعضها، فيظل الارتباط قائماً، بعد الطقوس والعادات في الطعام والعبادات والسلوك اليومي. تتنوع طقوس العبادة والمأكل والمشرب والإفطار وأنواع الطعام والاستماع لتواشيح بعينها، وقراء ومشايخ بعينهم، والمكوث في أماكن معينة، والقيام بأنشطة وأعمال بشهر رمضان، وتتنوع هذه الطقوس، وتلك العادات من بلد إلى آخر، بحسب طبيعة أهلها وإرثهم الثقافي والاجتماعي، ومن خلال ما تعرضت شعوبهم من مناحي التغير والتبديل مع اتساع بقاع بلاد المسلمين، فصبغ كل شعب وكل أمة رمضان بصبغته، فيما يتعلق بعادات الأكل والعبادة، فاختلفت معالم الطقوس من مكان لآخر، وتنوعت وإن اتحدت في المحتد، وكان الأصل واحداً. ويحظى شهر رمضان المبارك بمكانة خاصة عند السوريين، إذ تستعد له مختلف الأسر السورية الفقيرة والغنية على حد السواء، قبل أيام من حلوله في أجواء احتفالية، بحسب غيثاء رفعتموظفة، مضيفة: تتزين واجهات المنازل، وتتلألأ الجوامع في كل المدن بالمصابيح، وتدب حركة غير عادية في الشوارع، وتنشط المحال التجارية والأسواق إلى ساعات متأخرة من الليل، وتستعيد العلاقات العائلية السورية في شهر رمضان المبارك، الدفء الذي سرقته منها الحياة العصرية. وتضيف رفعت: يعتبر السوريون رمضان شهر تجمع العائلة، وفرصة نادرة للم شمل أفرادها حول مائدة إفطار واحدة، وتبادل الزيارات وتنوع المأكولات، والاستضافة لتناول الإفطار، وفرصة للتصالح، وتسوية الخلافات مع الأهل والأصدقاء. وعن الذاكرة الشعبية التي تحفظ للشهر طقوسه، منذ القدم، تقول رفعت: من أهم ما يرتبط برمضان التمر واللبن، حيث يعدان عنواناً لإفطار الصائمين، وذلك قبل أداء صلاة المغرب في المساجد أو البيوت، ثم تقام مائدة الإفطار، التي تعدّ إحدى خصوصياتنا، فتتزين الموائد بزيت الزيتون والبهارات، وأطباق كطبق الكبة، وهي عبارة عن برغل مقلية بالسمن الحيواني والبصل، ومن أطباق الطعام التي اعتادت ربات البيوت تحضيرها في هذا الشهر المقلوبة، التي تتألف من الرز المطبوخ مع الباذنجان واللحم والسمن العربي والمزين، بأنواع المكسرات كالجوز والصنوبر واللوز والفستق الحلبي. أما عدنان الحماديموظف إماراتي، فيقول: من الضروري وجود طقوس مصاحبة لشهر رمضان كل عام، تختلف عن غيره من الشهور ونشرك الصغار في هذه الطقوس والشعائر، لينمو بداخلهم إحساس بأهمية الشهر الكريم واختلافه عن بقية شهور السنة، وتظل ذاكرتهم عامرة بالأجواء العطرة للشهر الكريم. ويضيف الحمادي: من طقوس رمضان الزينة غير المبالغ فيها، والروحانيات العالية التي تنتابنا جميعاً، مع الهدوء النفسي، واشتراك أفراد الأسرة، في إعداد الإفطار في جو مملوء بالمرح، حيث تغلب عليه الفرحة. أما عن الشعائر الدينية، فيقول الحمادي: نهتم بالصلاة جماعة في المسجد، ووضع جدول للانتهاء من ختم القرآن، وتأدية بعض الفروض أيضاً، فللشهر خصوصية مختلفة عن غيره، حيث الاستعداد لعبادة تستمر شهراً، مما يحتاج إلى شحذ الهمة لاستكماله، والرضا بما نقدمه خلاله. ويذكر الحمادي أنه يرتبط بالصلاة بمسجد معين لقارئ معين، حيث تكثر زيارات المشايخ والقراء في رمضان للدولة، مما يتيح الفرصة للاستماع لهم، والاستمتاع بتلاوتهم، لذا يسارع دوماً بالسؤال في بداية كل رمضان عن أهم المشايخ الذي سيزورون الإمارات، ليستعد للصلاة معهم. ويؤكد عبد اللطيف البلوشي محاسب ،أن أهم ما يميز رمضان في الإمارات، ونستمتع بها جميعاً الحرص على تلاوة القرآن الكريم، وتخصيص أوقات لدراسة الحديث الشريف وإقامة السهرات الدينية، والندوات الحوارية، في المساجد، وعقب التراويح. ويضيف البلوشي: كما يميزه روح العطاء والتعاون وتبادل الزيارات من أجل تدعيم أواصر صلة الرحم، والإكثار من عمل البر والخير كالإحسان إلى الفقراء والأرامل، والالتزام بالطاعات أكثر من الأيام العادية في السنة. أما عن الجانب الاجتماعي، فيضيف البلوشي: تعلق الفوانيس في الطرقات وعلى شرفات المنازل، تحية للشهر الكريم، التي تعبر عن احترامه وقدسيته، وإطلاق مدفع الإفطار، وهو تقليد مستمر للإعلان عن حلول موعد الإفطار. وعن أبرز العادات الاجتماعية في السودان، التي ارتبطت بالذاكرة الشعبية والطقوس الرمضانية، تقول زهراء عمر موظفة بجهة حكومية: أهم ما يميز رمضان هو الإفطار الجماعي في الشوارع والساحات العامة، قبل أن تغيب الشمس ويرتفع الأذان، فيعد الشباب والأطفال مكاناً متفقا عليه، يتم فرشه بالبروش والمفارش، وقبل الأذان بقليل يخرج الشباب والأطفال، وهم يحملون صواني طعام الإفطار، ويحضر كل شخص زاده من منزله، وعادة تحتوي الصينية على العصيدة والتقلية والنعيمية أو القراصة، والنشا من المشروبات الشعبية التي تقدم ساخنة، وصحني تمر وبليلة، ومشاوي وغيرها، كل حسب استطاعته، بينما تقدم بعض المشروبات الخاصة في هذا الشهر. وتضيف عمر يعد مشروب الحلو مر، الذي يقدم عند الإفطار بشكل يومي، ويستعد له من شهر شعبان وتتم صناعته، ضمن طقوس معينة يقوم بها الأهالي استعداداً لهذا الشهر، وهومن أشهر ما يميز الشهر، فيما يقدم أيضاً عصير التبلدي، والكركدي، والعرديب، ومن أبرز الحلويات السودانية في هذا الشهر اللقيمات وبلح الشام والبسبوسة والكنافة. وترى عمر أن ما يميز الشهر الكريم أيضاً العبادات الدينية، فهي جزء أساسي، فيذهب الناس إلى المساجد يومياً للصلاة والاستمتاع بالاحتفالات الدينية، أما زينة الشهر، فتتميز بكونها لا تقتصر على الشوارع والمنازل، بل أيضاً تملأ المساجد التي تزين بالأضواء الملونة والفوانيس، ويعد المسحراتي، أيضاً أحد معالمه، التي ارتبطت بالمكان، حيث يتجمع شبان الحي، ويحملون الدفوف ويجوبون الأحياء، وهم يرددون: يا صايم قوم اتسحر.. للتنبيه إلى موعد السحور. محمد سعيد: أنتظم في أداء الشعائر الدينية محمد سعيد عوض موظف إماراتي، يقول: لي تقاليدي الخاصة في رمضان، حيث أحرص على مشاركة أسرتي الإفطار، رغم ظروف العمل التي تحول دون ذلك دوماً، ولاسيما اليوم الأول، فلابد لي من تناول الإفطار مع العائلة، وأحرص على لم شملها، وأضاف عوض: أنتظم في أداء الشعائر الدينية، منها التراويح وتلاوة القرآن والإكثار من الصدقات، وأروع ما يميز التباري في أداء صلاة التراويح، وتخصيص موائد الإفطار لهم في المساجد والساحات، وتهتم الجمعيات الخيرية بالقيام بدورها المنوط في مساعدة الأسر المتعففة. ويضيف عوض: نهتم بعرض الأطباق المميزة من الأطعمة في مائدة الإفطار والسحور، التي تحتوي غالباً على الكثير من الأطعمة الإماراتية، التي تعد خصيصاً في المنازل، وأنواع الحلويات المميزة. محمد أبو هنتش:التباري في أداء صلاة التراويح أشار الصحفي المقيم في الكويت، محمد أبوهنتش، إلى حرص الكويتيين على الاحتفاء باليوم الأول منذ نهاية آخر يوم في شعبان، بالتباري في أداء صلاة التراويح، ومن ثم الذهاب إلى الأسواق لشراء لوازم إفطار أول أيام رمضان. وبين أبو هنتش أن الكويتيين يعمدون قبيل الإفطار إلى عُرف يسمى النِقْصة، ويعني أن تقوم كل أسرة باختيار إحدى أكلاتها كالتشريبة أو الهريس أو غيرها، بدون شرط تميزها، وأخذ طبق منه لتهديه إلى الجيران، الذين يفعلون المثل مع جيرانهم، ما يوثق عرى المحبة، ويعد شكلاً من أشكال التكافل في ما بينهم. وذكر أبوهنتش، أن أهم ما يميز اليوم الأول في رمضان لدى الكويتيين، هو الجَمعة، حيث يجتمع كل أفراد الأسرة المتزوجين وأبنائهم، في بيت العائلة للإفطار معاً، وبعدها يتوجهون بعد صلاة العشاء والتراويح إلى دواوين الأقارب للتهنئة، ومنها إلى دواوين كبار قاطني المنطقة والمسؤولين، حيث يجدونها عامرة بما لذ وطاب من الحلويات الرمضانية مثل: صب القفشة واللقيمات والغُرَيِّبة والمعاميل والزلابية، وغيرها. وشدد أبوهنتش على أن أهم ما يميز أهل الكويت طوال العام عموماً، وفي شهر رمضان خصوصاً، البذل في سبيل الله على الفقراء والمحتاجين والأسر المتعففة وسواها، حيث تجد في الطرقات وقت الإفطار الشباب المتطوع حاملاً أكياس التمر والماء، لتوزيعها على المارة، علاوة على ما تقوم به المؤسسات الخيرية من جهود منظمة لإفطار الصائمين في الكويت وخارجها. محمد رفعت والمنشاوي يرى سعيد أحمد معلم اجتماعيات مصري، أن الاستعداد لرمضان يكون مادياً بتجهيز الأطعمة والحلويات والفوانيس والزينة، ومعنوياً بتجهز النفس وتنشيطها للعبادة وسماع القرآن من المشايخ القدامى، مثل الشيخ محمد رفعت والشيخ محمد عمران والشيخ المنشاوي والشيخ عبدالباسط، قبل الإفطار. وعن أهم التقليد في رمضان يقول أحمد: يمر المسحراتي من أجل إيقاظ الصائمين لتناول السحور، وتنتشر موائد الرحمن لإطعام الفقراء وعابري السبيل في الطرقات في وقت الإفطار، وكل هذه المظاهر تعبر عن رُوح التعاون التي تسود أوساط المجتمع في الشهر الكريم، ويضيف: كلها طقوس، استمرت طويلاً، ومازلنا نحتفي بها. ويضيف أحمد: من فضل الله على الأمة الإسلامية أن منحها عطاءات ونفحات لتزكي نفوسها، ومنها رمضان، فله قدر عظيم عند كل مسلم، فكل القلوب تشتاق إليه، وتسعى بكل جهدها لاستقباله للاستفادة بالثواب، بتلاوة القرآن والاستماع إليه والصدقات وصلة الأرحام وغيرها من الطاعات. وترتبط ذاكرته حسب قوله بهذه الشعائر الدينية والنفسية، التي يتقيد بها طوال الشهر، وتترك بنفسه أثراً لشهور عدة بعده.
مشاركة :