بين الزمن والذاكرة عموماً مسافة لا تحتمل الانتظار طويلاً، فالزمن يسرق الذاكرة او شيئاً من تفاصيلها، والذاكرة تقاوم بلا هوادة حيناً وبلا أملٍ حين آخر. صراع الذاكرة والزمن صراع المنتصر فيه مهزوم، فلا الزمن سوف يزهو بانتصاره على الذاكرة، ولا الذاكرة بقادرة على مقاومة آثار الزمن وتداعياته. ولربما كان جيل الآباء والأجداد محظوظاً أكثر من جيلنا الذي بدأت ذاكرته تشيخ بسرعة وتفقد تفاصيل كثيرة وتغيب عنها مفردات زمانها وأشكال مكانها الذين كان لها ملعباً ولهواً وعمراً. ولعل إيقاع زماننا السريع اللاهث جعل ذاكرتنا هي الأخرى تلهث في ماراثون صراع الذاكرة والزمن، ولعل إيقاع زمن الآباء ساعدهم على الاحتفاظ بذاكرتهم وذكرياتهم أطول منا نحن الذين اخترقنا النسيان على غرة، حتى الوجوه التي عرفناها بدأنا حائرين أمامها نعتصر بقايا ذاكرة شاخت في مكانها. قيل لنا الكلمة تتحدى الزمن وتنتصر عليه، فاحترفنا الكتابة في كل شيء إلا أننا لم نحفر في ذاكرتنا، ولم نسجل مسيرتها، ولم نرسم على الورق صورها ووجوهها، فغابت التضاريس في زمن لن يعود مهما بذلنا واجتهدنا لاستعادته من أجل التذكر ومن أجل إعادة صياغة الروايات لزماننا الذي رحل. بعض الذين نعرفهم احتفظوا في أرشيف ذاكرتهم بصور أصدقاء العمر، وقد سبقنا الجيل الماضي بالاحتفاظ بالصور والوجوه في ألبومات امتلأت بالأصدقاء في هواية انقرضت الآن وهي هواية تبادل الصور. «إن غاب جسمي فهذا رسمي» هي العبارة الأكثر شيوعاً في زمن سبق زمننا وعشق هوية تبادل الصور، وكانت تلك العبارة منقوشة خلف كل صورة مذيلة بتوقيع صاحبها او مرسلها وتاريخ الإرسال. الجيل الجديد استبدل الألبومات بهواية الاحتفاظ بالصور وصور المناسبات في الجوال، وهي وسيلة احتفاظ مؤقتة لا تطول ولا تمتد بها الأعوام، كون الموبايل قابل للعطب او الامتلاء حدَّ التخمة فيضطر صاحبه إلى وسيلة المحو، فيمحو كل صورة وكل مناسبة. هل أقترح هنا أن نعود إلى هواية الألبومات؟؟ لا لست في وارد ذلك، فكل وقت له أدواته ووسائله ومن غادر لا يعود أبداً. ذاكرة المكان هي الأخرى رحلت مبكراً منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، ولم يعد المكان كما كان ولا القدرة على تذكره لم تعد كما كانت، ولعل بعض صور المكان الذي ذهب كانت قادرة إلى حدٍ ما إعادة الذاكرة إلى ملاعب كانت لها وكانت جزءاً منها. لست هنا في حالة حنين «توستا لوجيا» حادة، ولكني في حالة تأمل لمشهد سريع يغادر لحظته فتغادر معه كما الطيور في ساعة غروب. ويستمر الماراثون القاسي والصعب بين الذاكرة والزمن، ويدخل المكان على الخط في الصراع الطويل، ونلملم ما تبقى من ذاكرة جيلنا، ونرحل إلى تلك الأماكن نستنطقها ونلوذ بها وقتاً مستقطعاً قصيراً، ونجتهد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا لاستعادة ذاكرة المكان. وذاكرة المكان لا تبخل في استعادة شريط الأيام والأعوام، فتنتشي بنا اللحظة ونكاد نطير بفرح قديم وقد نطقت الذاكرة بما نطق به المكان الذي كان. والمكان هو الأوفى لذاكرتنا التي شاخت، وعدنا فراداً او جماعات صغيرة إلى الأمكنة، لنكتشف أنها وإلى الآن نحتفظ برائحة الزمن القديم. أللأماكن رائحة؟؟ أجل لها رائحة لا يستطيع أن يشمها إلا من عاش في ذلك الزمن، إنه يشمها بجوانحه ووجدانه وروحه الغائرة في أيام زمن مضى، وتلك هي الأجمل. وهناك نخرج لك ما بين بقايا الجدران وجوه لتضيء الذاكرة بابتسامتها وشقاواتها وطفولة زمانها وبراءة مكانها، فتنساب اللحظة المستعادة ونذهب في رحلة غير مرئية وغير متحركة، فنحن في زماننا هذا لكن أرواحنا ووجداننا وروحنا تُحلق في زمن شاخ فشخنا معه ونحن مازلنا في مكاننا.
مشاركة :