أغلى من الولد

  • 6/6/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لم يبدُ كما أعرفه دوماً، مشرقاً تنشر ابتسامته عبق الفرح أينما حل، دخل اجتماعنا وكأن على وجهه رماد، متردد الكلمات خفيض الصوت، ماذا حدث لك يا محمد، أأنت بخير ؟ سألته عندما تفرق الحاضرون، وبعد إنكار وتهرب أخبرني قصة مشتتة الأجزاء، أحداث تبرر غمته، وشرحَ باستفاضة طفل عجزه أمام تسمية الأسباب ومعالجتها... أحب أبي وأحترمه، أقدره وأعترف بفضله... وهذا هو الاختلاف الوحيد بيني وبين زوجتي. كأنما هو مكبل اليدين، وكأنما ربط قلبه بأثقال تجره إلى أطراف متباعدة، فيكاد ينفلق، أب داهمه الزمن بعد شقاء وعناء، وبات وهن الجسم، ضعيف الذاكرة، قليل الحيلة، وكثير الحنان، وزوجة فتية متوقدة، تضع له الشمس عن يمينه وتستبدل القمر بنفسها عن يساره ولا تبقي في جواره فسحة لمن هو غيرها. منذ أن ترك محمد أباه وحيداً في المستشفى، لم يغب عن ذهنه يوماً، كيف وأطفاله يذكرونه بجدهم العطوف الذي افتقدوه، ويسألون دون إجابة، فهو لا يقوى على أن يخبر أبناءه بأن أمهم الحسناء، ترفض جدهم، تراكمت على رأس محمد الهموم، وصار حبيساً لهذه الحلقة المغلقة... وفقد ابتسامته وإشراقه يوم تخلى عن بره. قد يخفف عنك هجر والديك بعض المشاكل اليومية ويجعل حياتك الزوجية أفضل، ولكنه سيكدس في ضميرك الهموم، وسيطفئ لمعان عينيك ويرسم بأحلك الألوان مستقبلك... وسيبعثر قيماً كثيرة تحرص على أن تزرعها في أبنائك، وسيبقيك حتماً ضعيفاً أمام حق لم تؤده وواجب تخليت عنه. في مجتمعنا الصغير تبدو الأسر أجمل كلما كانت أكبر، تبدو أعرق حينما ترى الجد وابنه وحفيده يسيرون معاً في الحي، تبدو أصلب عندما تستمع لقصة قديمة يفوح منها غبار الزمن، يحكيها لك طفل في الثامنة، ويبدؤها بقوله قال جدي... في ثقافتنا وتقاليدنا وبيئتنا ورؤيتنا للماضي والحاضر والمستقبل، لا يتبدد الحب بالزمن، ولا يفقد القديم رونقه، وانحناؤنا للماضي وأهله، استثمار في المستقبل. علاقاتك بوالديك أمر لا يحتمل المساومة، ليس خياراً تتركه أو تأخذه، بل نعمة منحت لك على حين، وسيجرحك فقدها، رعايتهم واحترامهم تشريف لك تحتاجه حتى تزهر البركة في حياتك ومستقبل أبنائك، بعد أن أثبتت الأجيال أن أغلى من الولد ولد الولد، حري بنا أن نثبت أن الأصل أغلى من الفرع، وأن الجذور هي منبت العز والفخر وأن نشكر من وهبنا الحياة وكل ما فيها وأن نُشعره كم هو أغلى علينا من الزوجة والولد.

مشاركة :