30 عاماً على "قارئة الفنجان" التي حذّرَتنا فلم نخَفْ

  • 6/7/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

جلست قارئة الفنجان وجلست أمامها وبيننا فنجان قديم.. اقتربت لأعرف سر الخطوط الداكنة، التي تلون باطن الفنجان.. تتعرج وتتداخل وتتلاشى.. فاندلعت في الذاكرة موسيقى ترشدني إلى الطرق المغلقة، وتسترد من الزمان لحظات بقيت على رف الذاكرة تبتسم رغم كل شيء.. الموسيقى التي فاضت من الذاكرة أنستني الفنجان الذي أمامي، وصوت صاحبته الذي توارى في الخلفية، ووضعت مكانه فنجاناً لوّنه العندليب والموجي ونزار قباني بلون الشجن.. ففي لحن "قارئة الفنجان" تنطق الآلات الموسيقية قصيدة موازية لشعر نزار قباني، ولكن بلغة خاصة.. (تبدأ المقدمة الموسيقية بأسئلة تثقل الكمان حد الانهيار.. لماذا؟.. إلى أين؟.. وماذا بعد؟! تتصاعد تساؤلات الكمان، والأورج يضع علامات الاستفهام.. ويعيد الجيتار طرح الأسئلة نفسها.. لتضع الكمان هذه المرة علامات الاستفهام.. وتصرخ دهشتها أمام خزعبلات الأورج.. تشخَص ذهولاً، وهي تراه يلقي قطرات ملتبسة في بحيرة الغموض، تصرخ في دهشة.. ثم تصمت، فتتوتر الأجواء). جلست والخوف بعينيها تتأمل فنجاني المقلوب جيل النهايات هل أنت من "جيل النهايات"؟ ذلك الجيل الذي لحق بأواخر "الزمن الذي شهد نهاية كل جميل.. لو كنت من هذا الجيل -وهو "واسع المدى" يمتد ربما من الستينات للسبعينات والثمانينات أو التسعينات- فستعرف من أين جاءت هذه "اللّقطة".. إنها قراءة لإيقاع زمن ما، حفنة ذكريات عن جيل عاصر أبطال أغنية قارئة الفنجان، استقبلها برعشة قلب في أول إذاعة لها قبل ثلاثين عاماً وكرر سماعها وسط الجدل الذي دار حولها: معنى ولحناً وأداء، ثم ابتلع غصّة، وعاش ليشهد رحيل أبطالها ويبكيهم واحداً تلو الآخر، ويبكي معهم من خان، وما هان، وما صار طي "كان زمان".. *** (تشعل الكمان التحقيق سياطاً ملتهبة من الأسئلة وعندما يحاول الأورج أن يغير الموضوع تستجيب الكمان محاولة النجاة متسلقة فوهة بركان الأسئلة ويرسل الناي صدى المحاولة تستعر أنغام الكمان لوماً حارقاً قلقاً لماذا؟ إلى أين؟ وماذا بعد؟! محاولات لتغيير الموضوع والخروج من فوهة البركان.. يلقي الأورج أحجاراً لجس النبض في بحيرة الفضول.. وكذلك تجرب الكمان.. ووراءها الناي..). فاصل من حضر حفل الربيع عام 1976، حينما انطلقت قارئة الفنجان، صفق قبلها بقليل لانتصار أكتوبر/تشرين الأول 1973.. ليس في مصر فقط ولكن في العالم العربي، استحق لقبه آنذاك.. ثم عاش بعدها ليهتف ضد اتفاقية سلام تخص نظاماً كان يظنه البعض الأسوأ، وأحداث اعتقد البعض أنها الأقسى، وفُرقة عربية قد تبدو الآن في نظر البعض "رحمة"، أمام علاقات المصالح الفجة التي تربط بلاد العرب في هذا الزمان العَبوس. ثم.. لم يعد للربيع حفل، ولا للجيل "كبار" ينتظر إبداعهم.. فالفن إما غائب أو مشوه أو غائم الأثر لسبب ما.. يجيء ربيع ويمضي، ولا أثر لشوق إلى حفل أو غناء فأبحث عن قارئة الفنجان.. آخر "نسائم" ذلك الزمان الذي لا أعرف كيف أسميه دون أن أخدش ذاكرته أو أبتذل ذكرياته بوصف سقيم. مقدورك أن تبقى مسجوناً بين الماء وبين النار فبرغم جميع حرائقه وبرغم جميع سوابقه وبرغم الحزن الساكن فينا ليل نهار.. *** (يصطبغ الأفق بنبضات الحلم/الهاجس استحثاث من الأورج.. يجاوبه الكمان.. يحلم ويحكي أحلامه.. صرخة: ما الخطب؟ إجابة سؤال.. كأنها سؤال.. يشكو الكمان ظلمة التساؤل ثم.. تطيش عبر أوتاره سهام الحيرة أملاً.. واستعطافاً.. ورجاء.. ثم لا شيء سوى السكون) *** السندريلّا تكشف الأسرار كما يليق بسندريلا، لعبت سعاد حسني -من وراء الحجب - دور البطولة في أغنية حليم الأخيرة رغم أنها لم تذع ضمن فيلم تظهر فيه، ولا كان "الفيديو كليب" حينها غزا الشاشات.. لكنها كانت هناك كما حكت في مذكراتها، فقد كانت من الصديقات المقربات لبلقيس زوجة الشاعر السوري الكبير نزار قباني، وحكت لها عن الضغوط التى تعرضت لها لعدم إتمام الزواج من حليم، وعلم قباني بالقصة وخلدها في هذه القصيدة. **** بحياتك يا ولدي امرأة عيناها سبحان المعبود فمها مرسوم كالعنقود ضحكتها أنغام وورود والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا قد تغدو امرأة يا ولدي يهواها القلب.. هي الدنيا *** (تعود السهام مسممة بالغموض تنطلق من الكمان.. والناي استعطاف.. رجاء.. استحثاث.. تمهل.. ترقب.. خطوات.. أنفاق الأحلام الضيقة المعتمة تعبرها شخوص الأحلام المرتعبة هستيريا من الركض.. والهرب استعطاف من الكمان والناي.. استجابة للحلم البعيد/القريب تردد الصدى.. توقف من جديد.. وصمت.. ثم تصحو الكمان.. تجر خطى متثاقلة.. ويردد الأورج الصدى لتبدأ الحكاية.. ويحكي الإيقاع "كان ياما كان.."). انفعل نزار قباني بقصة الحب الغامضة كثيراً، فكتب الكلمات.. وأعجب بها حليم كثيراً، لكنه طلب من نزار تغيير بيت رأى أنه قد يسبب المشاكل له ولحبيبته، بحسب ما قالت سعاد حسني في مذكراتها، وهو البيت الذي يقول: "فحبيبة قلبك يا ولدي.. نائمة في قصر مرصود.. والقصر كبير يا ولدي.. وكلاب تحرسه وجنود"، فخاف حليم من جملة "وكلاب تحرسه وجنود"... ما حذفه "الخوف" من قصيدة نزار. وفي سابقة نادرة اتفق نزار وحليم ومعهما الموجي صاحب اللحن، على تغيير بعض كلمات القصيدة من أجل الأغنية فبدلا من: "يا ولدي قد مات شهيداً... من مات على دين المحبوب"، صارت "من مات فداء للمحبوب"، كما أضاف نزار قباني أبياتاً أخرى لم تكن في النص المطبوع في الديوان منها: مقدورك أن تمضي أبداً... في بحر الحب بغير قلوع وتكون حياتك طول العمر... كتاب دموع وقال حليم في مقابلة للتليفزيون المصري إنه تم حذف مقطع آخر يقول: ستحب كثيراً وكثيراً وتموت كثيراً وكثيراً.. وستعشق كل نساء الأرض.. وترجع كالملك المخلوع عامان استغرقهما محمد الموجي لتلحين القصيدة، وقد لحن بعض المقاطع أكثر من لحن وبمقامات موسيقية مختلفة، ليختار عبدالحليم منها، فما كان من حليم إلا أن اختارها كلها، فمثلاً مقطع "بحياتك يا ولدي امرأة" يغنيه عبدالحليم بلحنين مختلفين، وكذلك مقطع "ستفتش عنها يا ولدي"، في سابقة أخرى غريبة من نوعها. "منع" نزار نجاح الأغنية كان سبباً، كما يحكي مقربون، في منع نزار قباني من دخول مصر لفترة طويلة؛ لأن الأجهزة الأمنية اعتبرت القصيدة تحدياً لها، فلم تكن الكلمات على هوى النظام، وهناك من يقول إن التشويش من الجمهور أثناء الحفل كان حيلة أمنية (ينسبونها لصفوت الشريف، وزير الإعلام في عهد مبارك ورجل المخابرات السابق) لإفشال الأغنية، أو عقاباً عليها. وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان (رقصة الموت يزفر الناي السكرات إنصات تماد في القص.. صدى الناي يردده الأورج بأصداء التهويل غير المنقطعة توقُّف.. ثمة باب.. طرق بأنامل إيقاع التوجس.. وأحلام الكمان تشهد وتعرف وتصادق.. والناي يختم ويوثق.. وأصداء ثرثارة لأوردة الأورج.. المتحرقة شوقاً بالكاد يكمم صداها مقاطعة من الكمان.. هي أيضاً تحمل الهم نفسه وأمرّ الحلم نفسه وأجمل.. القلق نفسه وأعتى..). الشهور التي تلت حفل النهاية كانت مصداقاً لنبوءة الفنجان وأجواء الحفل.. لم يكن حليم ليعيش بعدها، كانت الحياة ستصبح أقسى مما يحتمل وقد احتمل الكثير من القسوة. "عندما تعود من السفر سأخبرك بما سيحدث"، آخر ما قالته قارئة فنجان حقيقة للعندليب، روى أحد الصحفيين أنها كانت تزور حليم كثيراً، وأنها أصل القصيدة.. سودانية تُدعى مرجانة.. نبوءة الفنجان.. ووصية حليم تحكي سندريلا أن حليم لم يعش طويلاً.. فتدهورت حالته الصحية.. ودخل مستشفى (كنجز كولدج) بلندن وقبل دخوله إلى غرفة العمليات للمرة الأخيرة.. كتب بخط يده جزءاً صغيراً من (قارئة الفنجان) في ورقة وجدوها ضمن متعلقاته تقول: "وبرغم الجو الماطر والإعصار.. الحب سيبقى يا ولدي أحلى الأقدار". وكأنه يعلن كما يليق بعاشق أنه على عهد هواه لها وحدها.. تقول سعاد حسني: "أوصى حليم نزار قباني أن يكتب قصتهما معاً عندما يسجل نزار مذكراته.. وطمأن نزار حليم وهو على فراش الموت ووعده بأنه سيعيش ليكتب بنفسه قصة حب (سعاد وحليم)، ولكن أخلف نزار وعده لحليم مرتين: الأولى عندما وعده أنه سيعيش ليكتب بنفسه، والثانية عندما مات نزار ولم يسجل مذكراته.. وكان قدري أن أحكي أنا قصتنا..". (الناي مرة أخرى.. يحزن.. يقلق.. يحلم هل هذه هي كل الحكاية؟ نحلم.. نفرح.. نحزن.. نقلق.. لنعود من حيث بدأنا؟ تعيد الكمان طرح استفهاماتها الموجعة ببطء يلح على الإجابات.. ويرمي الأورج أحجار جس النبض في بحيرة الفضول ويضع قطرات مشبوهة في دورق الغموض.. تتراجع الآلات بأمر صارم من الكمان بعد أن قالت ما لديها.. وتفسح مكاناً لجلوس العجوز.. ليدلي فنجان اليأس بأقواله، ويحسم المصير..). *** فحبيبة قلبك ليس لها أرض أو وطن أو عنوان ما أصعب أن تهوى امرأة يا ولدي ليس لها عنوان! finale... رحل العندليب بعد عام واحد من ذلك الحفل الشهير الذي تعرض فيه، للمرة الأولى ربما، لمحاولات استفزاز من بعض أفراد الجمهور الذين قاطعوه بصيحات وصفير.. "مش سامعين".. "هنفضل نهيص يا عبده"... قالوها ليثيروا غضب حليم.. النظرة في عينيه الغائرتين لا تنسى.. مرارة، سقم، وجع، إصرار، حيرة، دي آخرتها؟! يترك الميكروفون غير مصدق، ثم يعود غاضباً "على فكرة أنا بعرف أصفر كمان.. وبعرف أعلي صوتي وأزعق".. ويبتلع غصة بالقلب ويكمل. هل كان حليم ينزف آخر ألحانه لنفسه؟ هل استسلم حليم للحن "غريب" قبل أن يسلم الروح؟ هل انفصم عن نفسه كما بدا في مظهره ونظراته وتصفيفة شعره؟ أم أنه مات لأن أسطورة اللحن اكتملت؟ تبقى الأسئلة مشانق نعلق عليها إجابات، لا تكف عن الضجيج و"المعافرة".. نستنطق فنجاناً كي يمنحنا بها سكينة ما.. لنمضي. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :