النقد الأدبي وحرية الإبداع

  • 6/8/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

مع حبس الكاتب المصري أحمد ناجي بتهمة «خدش الحياء» ثمة سؤال يطرح: إلى أي مدى يدعم النقد الأدبي حرية الإبداع؟ يتصور البعض أن الدفاع عن حرية الإبداع ينطلق من إحساس المبدعين بتميزهم عن بقية أفراد المجتمع، وأنهم كائنات مميزة يحق لها ما لا يحق لغيرها من المواطنين، ومن هنا يتورط بعض النقاد والأدباء في كثير من الأحيان في ترسيخ هذا التصور حين يسمح لنفسه بالدفاع عن حرية الإبداع من منطلق أنه قول مخصوص في تشكيله وبالتالي يختص دون غيره بمساحة من الحرية لا تتطلبها صنوف التعبير غير الإبداعية! إن هذا التصور مغلوط على الجبهتين أي المدافعين عن حرية الإبداع والمناهضين لها، ومن ثم ينتج عن هذا التصور المغلوط في شكل مزدوج أحاسيس متبادلة بالتمييز المزدوج؛ فيشعر المبدعون بأنهم كائنات مضطهدة وسط محيط من المتخلفين والظلاميين تقودهم سلطة مستبدةٌ سياسياً؛ محافظةٌ من حيث تكوينها الفكري، ويشعر المناهضون لحرية المبدعين المطلقة بأنهم أمام ثلة من المهددين لقيم أخلاقية يؤمنون بها ويعتبرونها جزءاً من هوياتهم الثقافية التي يجب عليهم الدفاع عنها قضائياً معتبرين أن القضاء هو الساحة التي يجب أن يتم فيها الفصل بين الاختلافات الثقافية بين المواطنين، وليس فقط الخلافات بين الأشخاص الاعتباريين وشؤونهم الشخصية. أعتقد أن هذه النقطة من الجدل في الساحة الثقافية العربية يجب أن تطرح مجدداً على مؤسسة النقد الأدبي ذلك السؤال القديم المتجدد وهو المتعلق بأدبية الأدب، أي ما الذي يجعل الأدب أدباً؟ ذلك السؤال الذي طُرح منذ انطلاق رحلة النظرية الأدبية المعاصرة مع الشكلانيين الروس في الربع الأول من القرن العشرين. ومن دون الدخول في تفاصيل نقدية مدرسية، يمكن القول إن مفهوم «الغرائبية» الذي قدمته الشكلانية الروسية كان القاعدة التي تأسست عليها نقدياً فكرة أن الأدب يكون أدباً عندما يتم تشكيله في شكل غريب، ومن ثم يكون قادراً على إدهاش القارئ. ونظراً إلى أن الشكلانية الروسية ومن بعدها البنيوية اللغوية لم تكونا تنظران إلى النص الأدبي إلا باعتباره نصاً مغلقاً مقطوع الصلة بما هو خارجه في المجتمع أو الحياة الإنسانية للمبدع، فإن سؤال أدبية الأدب وإجابته المتعلقة بالغرائبية لم يتجاوزا حدود التشكيل اللغوي للنص الأدبي؛ بحيث يكون «انزياحاً»، أو «انحرافاً»، عن «اللغة غير الأدبية»، أو بعبارة أخرى انحرافاً عن لغة الناس أو كلامهم! وفي المقابل، كانت البنيوية التوليدية؛ على سبيل المثال، علامة على طريق التوجه النقدي الذي وصل النص الأدبي بالمجتمع ولم ير فيه نصاً لغوياً مغلقاً على نفسه. وعلى رغم أن هذا التوجه النقدي تبنّى فكرة الغرائبية وما يتبعها من انحراف أو انزياح عن لغة الناس وكلامهم في ما يتعلق بالتشكيل الفني للنص الأدبي، فإنه تخلّى عن هذه الفكرة حين راح يقرأ العلاقة بين النص الأدبي والمجتمع؛ حيث كان المبدأ الحاكم لهذه القراءات هو أن النص الأدبي تشكيل فني منحرف عن لغة الناس وكلامهم وفي الوقت نفسه تمثيل لانتماء طبقي أو مجتمعي أو عقائدي ينحاز له الكاتب الذي يمتلك رؤية للعالم وأن هدف الناقد الأدبي – في غالب الأحيان- استخلاص رؤية الكاتب للعالم لتوضيح مدى المطابقة بين البناء المجتمعي الموجود في النص والبناء المجتمعي الموجود خارجه! في ضوء هذه الآفاق النقدية للشكلانية الروسية والبنيوية اللغوية وكذلك البنيوية التوليدية لم تكن مؤسسة النقد متسقة مع نفسها في ما يتعلق بحدود حرية الإبداع؛ حيث الحرص على تأكيد التمايز اللغوي التراتبي بين الأدب و»اللا أدب»، وفي الوقت نفسه استخدام المجتمع في الأدب استخداماً مشروطاً عند الشكلانيين ومن تبعهم في توجههم بقطع الصلة بين المجتمع المستخدم في النص الأدبي والمجتمع خارج النص الأدبي، ومشروطاً عند البنيوية التوليدية ومن تبعهم في توجههم النقدي بأن يكون استخدام المجتمع في النص الأدبي في خدمة انحياز طبقي محدد ووحيد؛ بحيث يتم مركزة منظومة قيمه ودعم مصالحه الاجتماعية والسياسية، وبطبيعة الحال لا يكون ذلك إلا على حساب طبقات أخرى ومنظومات قيم ومعتقدات ومصالح اجتماعية وسياسية لفئات أخرى. ومن ثم كان على النقد الأدبي أن يبحث عن ميخائيل باخيتن باعتباره منقذاً فلسفياً انتشل مؤسسة النقد مما أوقعت فيه نفسها من ورطة كبيرة وهي أن تكون بتوجهاتها الشكلانية في خدمة «نظام أدبي» مُتخيّل، لا مجال فيه للتنوع، بل هو نظام جوهره الإيمان بالأحادية بامتياز يُعلي من شأن نصوص تمركزت ثقافياً ولغوياً وأدبياً ويهمِّش كل ما يكشف عن زيف نقاء كل ما هو أحادي سواء كانت تلك الأحادية لغوية أو ثقافية أو أدبية! بطبيعة الحال، لم يكن مطروحاً على منظِّري الشكلانية الروسية والبنيوية اللغوية أو التوليدية وربما لم يكن مطروحاً على كل منظري النظرية الأدبية المعاصرة ما هو مطروح علينا في عالمنا العربي من أسئلة تثير ذلك الجدل الذي تشهده الساحة الثقافية والإعلامية العربية، والمدهش أن هذه الأسئلة اتخذت شكل اتهامات متكررة ولم تجد على مر عقود من ينقلها من ساحة القضاء والسياسة إلى ساحة النقد الأدبي. فاتهام «أدب» بـ «خدش الحياء»، أو «ازدراء الأديان» لا يطرح على النقاد مهمة تعريف «خدش الحياء»، و «ازدراء الأديان» بقدر ما يطرح عليهم مهمة مراجعة مدى تورطهم في الإساءة إلى حرية الإبداع بنشر الوعي النقدي الداعم لنظام أدبي محافظ جوهره الأحادية الثقافية واللغوية والعقائدية استناداً إلى تمايز لغوي تراتبي بين «الأدب»، و»كلام الناس»، ما جعل لحضور «كلام الناس» في الأدب، محل اتهام قضائي، بل ومحل تشكيك في أدبية نص أدبي وسط مجتمع الأدباء أنفسهم! إن دفاع النقاد عن حرية الإبداع باعتباره تعبيراً تشكّل بطريقة مخصوصة عن كلام الناس، ومن ثم له من الحرية ما ليس لكلام الناس من حرية، هو دفاع يثير حفيظة الناس ومنهم أدباء يكتبون أدباً ولم يمنحوا لأنفسهم حرية فوق المتاح من هامش الحرية المتاح في مجتمعاتهم. ومن ثم، لا يتسق دفاع مؤسسة النقد عن حرية الإبداع إلا على إحدى قاعدتين؛ الأولى أن حرية الإبداع جزء لا يتجزأ من حرية التعبير، وأن هامش الحرية المتاح لحرية التعبير في مجتمع ويخضع له المواطنون يخضع له المبدعون! وفي هذا تقييد لكليهما (حرية الإبداع وحرية التعبير) بحدود هامش الحرية المقنن والذي تتحدد حدوده وفق مستوى الصراعات الثقافية المجتمعية والسياسية! أما القاعدة الثانية التي تحقق مؤسسة النقد الأدبي بها اتساقها مع نفسها بوصفها مجالاً يدرس صنفاً من التعبير بطريقة ترسخ نظاماً أدبياً محافظاً أحادياً، وبوصفها مؤسسة تضم نقاداً يدافعون عن حرية الإبداع، فهي الانفتاح على التوجهات النقدية، التي أسقطت الحواجز بين الأدب وكلام الناس ونشر وعي نقدي يدعم التنوع ثقافياً وأدبياً ولغوياً. أعني أن يتوقف النقد الأدبي عن أن يكون النقد الأدبي الذي يعرفه منْ كانوا نقاداً في خدمة تقييد الحريات العامة ومركزة نصوص أدبية ممثلة ثقافياً لفئة من الناس على حساب نصوص أخرى لناسٍ غاب تمثيلهم ثقافياً وسياسياً واجتماعياً عن النظام الأدبي والمجتمعي والسياسي. هل أقول يحتاج النقد الأدبي لأن يغيّر جلده ويغطّي عوراته التاريخية في مجتمعاتنا بالانفتاح على الدراسات الثقافية؟!

مشاركة :