عصر الاكتفاء الذاتي عاد من جديد. ففي غضون أسبوعين، ستُجري بريطانيا استفتاءً حول الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ذاك المشروع العظيم الذي أُقيم بعد الحرب العالمية الثانية لنشر السلام والرخاء. ولا يهم هنا أن جل الخبراء الاقتصاديين يحذرون من أن من شأن إمكانية انسحاب بريطانيا تدمير الاقتصاد البريطاني، بكلفة تقدر بقرابة 6 آلاف جنيه استرليني بالنسبة لكل عائلة بريطانية. كما لا تهم الأخبار التي تفيد أن الأسواق بدأت منذ الآن تضطرب خوفاً من عواقب ذلك على الجنيه الاسترليني والقطاع المالي برمته، وأن المواهب ذات المهارات العالية أصبحت تتردد في الانتقال إلى الجزر البريطانية التي من غير المعروف كيف ستكون علاقاتها بالاتحاد الأوروبي في عالم ما بعد الانسحاب البريطاني، وأن الزبائن الأجانب بدأوا يعلّقون أو يؤخرون عقودهم مع الشركات البريطانية. ولكن، من يكترث لكون هذه الجزر الصغيرة التي تعتمد اعتماداً كبيراً على القارة بخصوص ما تستهلكه وأين ترسل صادراتها، تعرِّض كل هذا النشاط الاقتصادي للخطر؟ فالكثير من البريطانيين يريدون الانسحاب حتى يُظهروا أنهم منفصلون وأنهم سياسياً يقررون مصيرهم بأنفسهم وأنهم ليسوا معجبين حقيقة بكل هذا الهراء الباهظ حول الوحدة الأوروبية العابرة للإثنيات. وبالتالي، فإن الانسحاب احتمال وارد جداً. واستطلاعات الرأي الأخيرة تُظهر أن المعسكر المؤيد للانسحاب والمعسكر الرافض له متعادلان تقريباً. بيد أن البريطانيين ليسوا الوحيدين الذين تراودهم خواطر انفصالية اقتصادية وسياسية وثقافية، إذ هناك نزعات انفصالية مماثلة في بلدان أخرى في الاتحاد الأوروبي مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا. فداخل إسبانيا، مثلاً، يتحرك الكاتالنيون مرة أخرى من أجل الاستقلال. كما يبدو أن الانفصاليين في منطقة فلاندرز في بلجيكا قد استيقظوا من جديد، بل وحتى داخل بريطانيا نفسها، أجرت اسكتلندا مؤخراً استفتاءً حول الانسحاب من المملكة المتحدة. وشرقاً، انخرطت روسيا في مظاهر قومية متطرفة خاصة بها للانفصالية الاقتصادية، فجرّفت أطناناً من المواد الغذائية الأجنبية، وأغلقت الوصول إلى واردات إضافية. وبالمثل، اتخذت الصين، التي كان يُنظر إليها في يوم من الأيام على أنها تسير نحو قدر أكبر من الانفتاح الاقتصادي والثقافي، أسلوباً أكثر قومية وحمائية ومعاداة للأجانب. وهذا الربيع، ذهبت الحكومة إلى حد إطلاق حملة دعائية تحذّر فيها المواطنين من التقرب كثيراً من الأجانب الوسماء. من إحدى النواحي، هذه التطورات الدولية - أو على الأقل حدوثها على نحو شبه متزامن - مفاجئة بعض الشيء. ذلك أننا نعيش في عهد من العولمة غير المسبوقة، حيث عرّضتنا وسائل الإعلام الجماهيرية أولاً، ثم وسائل التواصل الاجتماعي، لأفكار ومنتجات ولغات نظرائنا البعيدين عبر العالم. كما أن التقدم في المالية والتكنولوجيا واللوجيستيك سهّل التجارة أكثر، والتجارة في أنواع أغنى من السلع والخدمات، مقارنة مع أي وقت في التاريخ البشري. ومع ذلك - وبالرغم من هذا التقدم في العولمة أو ربما بسببه - أخذت البلدان والمناطق والشعوب عبر العالم فجأة وبشكل متزامن تجنح إلى الانسحاب والانكفاء على ذاتها. وأخذ المواطنون حول العالم يتجاهلون التحسنات التي طرأت على مستويات المعيشة بفضل قرون من تبادل الأفكار والمنتجات والعادات، وبدأو يتجهون بدلاً من ذلك نحو مزيد من العزلة والانفصال. ولأول مرة في التاريخ، لم تعد أي جزيرة جزيرة حقاً. ولكن بشكل متزايد، أخذت البلدان والشعوب تريد عزل نفسها عن التأثيرات الاقتصادية والسياسية والثقافية للآخرين. لقد بتنا أكثر ارتباطاً مع الآخرين مقارنة مع أي وقت مضى، ولكن ردّ فعلنا على ذلك هو محاولة قطع ذاك الارتباط! ... المزيد
مشاركة :