حضور فاتر، وغياب كبير يشبه كثيرا القبض على قطعة ثلج في نهار بارد، ثم محيطات من الصمت والعتاب الذي يأتي بعد فوات أوانه، ووسط هذا كله، لا شيء سوى الوحدة! العربنهى الصراف [نُشرفي2016/12/17، العدد: 10488، ص(21)] صوّر إريك ماريا ريمارك؛ الألماني الرقيق، في خاتمة إحدى رواياته “للحب وقت.. وللموت وقت”، مشهدا آسراً لجندي ألماني إباّن الحرب العالمية الثانية وهو يحاول مواصلة دعمه لأسير روسي كان أنقذه من الموت في وقت سابق. لكن الآخر كان مرتابا فيه ومدفوعا بالخوف من كل ما يحيط به من فظاعات ارتكبها الجانبان في الحرب، فلم يصدق نوايا الجندي الألماني إرنست.. الذي خاب أمله وذهب إلى حال سبيله. وعلى غير المتوقع، شيء ما جعل الألماني يستدير فجأة إلى الخلف، ليجد الأسير وقد استل سلاحاً كان يخبئه في ملابسه ليصوبه إلى رأس منقذه. كانت لحظة غريبة؛ عرف فيها إرنست البطل أن نهايته مقبلة لا محالة، وهي المسافة القليلة التي تفصل بين سلاح الروسي ورأسه! ومثل كل النهايات، تتابع شريط حياته أمام عينيه؛ تذكر حبيبته التي تنتظره والأعمال التي عليه إنجازها والكثير الكثير من الأمنيات التي كانت تملأ رأسه، المواعيد المؤجلة والعلاقات المبتورة، الوطن، الأصدقاء، الأمل بنهاية الحرب وشروق الشمس في الصباح الباكر. “كان يريد أن يقول شيئاً”، لكن الأشياء لم تقل، حين داهمه الوقت في هذه اللحظة بالذات، لحظة الموت، وكان عاجزا بصورة فظيعة عن التفكير بأي شيء سوى تخيله الألم المقبل والفراق الوشيك! كنت أفكر بكلمات ريمارك وأنا أحاول أن أقطع مسافة طويلة كانت تفصل بين منزلي وعيادة الطبيب، لأدعي ممارسة رياضة المشي التي أدمنتها مؤخرا، والحقيقة أنني كنت استغل هذه الساعة اليومية في التخطيط للتحايل على الأعمال المتراكمة وتوزيعها على ساعات اليوم القليلة. لكن كل المحاولات كانت تبوء بالفشل، بعد أن تزيحها الأفكار المزعجة والهموم التي تنبت في رأسي يوميا كالأشواك العنيدة؛ الكوابيس القديمة وحكايات الأهل في الوطن الذي ينام على سفح الحروب، مشكلة قديمة مع قريبة مازالت تراكم سوء الفهم فلا تترك مجلا للصلح، ليس موضوعا تافها، إذا كانت هذه القريبة هي كل ما يربطنا بالعالم الخارجي، ومثلها أقرب الناس، والمسافات التي بدأت تكبر والجدران التي أخذت ترتفع وتتطاول حتى تراكم الثلج على زواياها، لعبة شائكة من سوء فهم. البحث في الجدوى، والأسئلة التي تسقط على شكوكنا كل يوم: هل هذه هي النهاية.. هل تغيرنا، هل كنا واهمين.. هل .. وهل؟ حضور فاتر، وغياب كبير يشبه كثيرا القبض على قطعة ثلج في نهار بارد، ثم محيطات من الصمت والعتاب الذي يأتي بعد فوات أوانه، ووسط هذا كله، لا شيء سوى الوحدة! كنت أحاول أن أقطع المسافة إلى الجهة المقابلة، نظرت إلى الجهة اليمنى لأتأكد من خلو الشارع من السيارات فكان شاغرا، وحين تقدمت خطوات قصيرة، سمعت منبها مزعجا ومتواصلا لسيارة سريعة جدا كان سائقها يحاول إجباري على التوقف من دون جدوى، السيارة كانت قادمة من الجهة اليسرى.. تذكرت أنني في لندن وتخطيط الشوارع يقول لي أن أنظر إلى اليسار بدلا عن اليمين! كم أنا غبيّة؟ توقفت السيارة في اللحظة الأخيرة؛ اللحظة التي كانت تفصلني عن الموت، اللحظة التي كانت تشبه ملمس قطعة الثلج لكن قلبي هو من كان يمسك بها في هذه المرة. هل هذه فرصة لمحاولة أخيرة وبائسة؟ عدت إلى المنزل، فاستقبلتني ابنتي لتعطيني مغلفا يحمل شيئا في داخله، وكانت تقول “أكملت حياكة هذا الوشاح في درس تصميم الأزياء، إنه لك.. أعلم أنك تبردين كثيرا، هذا سيدفئك!”. على هذه الأرض الحزينة، هناك ما يستحق أن نعيش من أجله. نعم، نعاني من وحدة فظيعة، لكن يتوجب علينا وحدنا.. وحدنا .. اجتيازها. كاتبة عراقية مقيمة في لندن نهى الصراف :: مقالات أخرى لـ نهى الصراف كان يريد أن يقول شيئا , 2016/12/17 اكتئاب الشتاء نظرية شعبية غير واقعية, 2016/12/16 طريقك مسدود.. مسدود, 2016/12/10 غضبنا يسهل تثبيت صورتنا السلبية في عيون الآخرين, 2016/12/07 كان عندي حذاء, 2016/12/03 أرشيف الكاتب
مشاركة :