رحل قبل اسابيع تاركاً وراءه أعماله الأدبية التي تنوعت بين فنون الكتابة الإبداعية والدراسة، بعضها في كتب وآخر في المجلات والجرائد، وما أحجم عن نشره محتفظا به ليراجعه ويكمله، أو يعيد النظر فيه، ولكن الموت ألحقه بمن سبقوه، وقد سطَّرت في الحلقة الماضية عن شيء من بداياته، وأعماله التي نشرها، وتنقلاته بين الصحف والمجلات، والمدن العربية، وأذكر اليوم أنه كان في سباق مع مجايليه ومن تقدمه بقليل لكي يؤكد حضوره في الساحة الثقافية العربية، لحق بيوسف إدريس، وتماهى مع يحيى الطاهر عبدالله، وتنافس مع يوسف شرورو، وابو المعاطي أبو النجا، وزامل الطيب صالح، وسميرة عزام، وغيرهم من الكتاب المهتمين بالقصة القصيرة مثل محمد زفزاف، وحنا مينا، وزكريا تامر، وقد رعى وتبنى وساعد العديد ممن جمعهم به الوقت والعمل وتقربوا منه لما يتمتع بهمن روح سمحة دمثة حببته إلى زملاء ومتلقين معجبين بروحه التعاونية مع من طرق بابه وطلب توجيهه. ذَكَرْتُ لقاءه الأول مع الأديبة الكبيرة غادة السمان في بعض ما كتبته ملخصاً من رسالة خاصة كتبها لي تعليقا على ما كتبت عن (الرواية المستحيلة) لغادة السمان، وكان ذلك عند بداياتها، حيث قدم لها قصة منشورة له في مجلة (الآداب)، وفي اليوم التالي سلَّمته موضوعا انطباعيا عبارة عن دراسة نقدية عن القصة، وكيف أنه فوجئ بقدرتها وهي في ذلك السن الصغيرة من أن تكتب تلك الكتابة الاحترافية كناقدة ذواقة، وفي الرسالة يكمل : كنت في ذلك الوقت أشرف في المساء على تحرير صفحة ثقافية في جريدة الأخبار الدمشقية، فاستأذنتها بنشر المقال الذي كتبته عن قصتي، فَسأَلَتْ إن كان يصلح للنشر؟، فأجبتها إنه يصلح لو ينشر في الصفحة الأولى. نَشَرْتُ المقال في الجريدة، وكان أوَّل مقال تكتبه غادة السمان، وأول مقال كتبته عني، كانتْ فَرِِحَةً جداً عندما وجدت اسمها برفقة مقال عن (الحزن في كل مكان) وهذا هو العنوان الذي حمل أول مجموعة قصصية صدرت لي. ثم يشير إلى أن الدراسة قد لفتت أنظار الكثيرين من الكتاب والكاتبات في ذلك الوقت حيث أحدثت خَضَّةً في جو كتابة القصة في سورية : (هذا قلم موهوب ولغة طَرِيَّة جذَّابة). ومن ذلك اليوم انطلقت غادة السمان في الكتابة على نحو متواصل ولتصبح بين عشية وضحاها الكاتبة الأولى في العالم العربي، وليكون رصيدها الإبداعي عشرات القصص القصيرة، والروايات، والرحلات حتى إن مؤسسة عالمية رشحتها لجائزة نوبل. وقد قابلت السمان رفاعيّة بما يستحقه من الاحترام ولم تزل، وقد باعدت بينهما المسافات تبعا للحركة العملية التي تحتم على من يدخل في مجال الصحافة التنقل وملاحقة الأحداث متى ما كان عند من يعرف قدره ويرى أنه يمكن أن يكون ممثلا للجريدة أو المجلة، وبإمكانه إثراء عمله بمواد تستحق أن يلتفت إليها، وأن تكون مغايرة تُحَفِّزُ على المنافسة، فيقول: بأن غادة لم تنس ما فَعَلْتُ لأجلها إذ اصبحتُ الناطق الرسمي لها ولإبداعها حيثما تَكْتُبُ أَكْتُبُ عنها، حتى إنها اعترفت في إحدى مقابلاتها لصحيفة منذ مدة تقول :(إننى لولا ياسين رفاعيّة لكنت الآن سيدة بيت (... ) أولاد كثر، أرعاهم ومنصرفة إلى المطبخ عوضاً عن الانصراف للكتابة) وهذا الاعتراف موثق بأحد حواراتها ولم تُنْكِرْ فضلي عليها في أي يوم من الأيام . غادة السمان اليوم في السابعة والسبعين. تقول إنها من مواليد 1937، وإن كانت تدعي أنها من مواليد 1942 لكنها ما زالت في قمة العطاء، تقيم في باريس من أيام اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ولم تعد لبيروت خلال ذلك إلا لأيام عدة، كما تقول لي وكري الباريسي. اقترنت غادة بزوجها الثاني الرَّاحل الدكتور بشير الداعوق، وأنجبت منه الأستاذ الدكتور حازم الداعوق، ولا تحب وترفض أن يُذَكِّرها أحد بزواجها الأول الذي كان تجربة فاشلة قاسية تتحاشى الحديث عنها. (نهر من الذكريات طويل) كان قد وعد الرَّاحل بأن يستمر في السباحة فيه ولكن القدر خطفه قبل أن يكمل، وربما هناك منه ما أكمل ولكنه بين أوراقه التي خَّلفها، فَلَعَلِّي أجد وسيلة للوصول إليها، فعسى أن تكون كتابا خطَّه بخبرته ومعرفته الوثيقة بغادة السمان يضاف إلى ما كتبه عنها آخرون، مثل غالي شكري، ومحيي الدين صبحي، وعدنان الأرناؤوط، وماجدة الحمود، وغيرهم من الذين وقفوا جميعا عند الإشادة بما أنتجته، وتنتجه اليوم وكأنها لما تزل في ريعان الشباب، فالفكر المتابع لا يشيخ كما الكتاب، فهي قارئة / كاتبة، هكذا خلقت غادة منذ (عيناك قدري) إلى (فسيفساء التمرد)، ولم تزل تكتب.
مشاركة :