لا برودة الطقس، ولا هدأة "مونترو" المدينة السويسرية الوادعة، حتى السكينة في الفضاء المحيط بالمجتمعين، كل ذلك لم يحد من درجة الخصومة المسستحكمة بين وفدي الحكومة السورية والمعارضة، المشاركين في مؤتمر "جنيف 2". الموضوع لا يتعلق بجلوس الموالين والمعارضين في قاعة واحدة، وأمام أعين المجتمع الدولي، وإنما بقدر إحساس كل طرف بالمسئولية الملقاة على كاهله، ومقدرته على تجاوز الأحقاد والثارات، والتعالي عن التفكير الحزبي النفعاني الضيق، وإنما الإصغاء لصوت السواد الواسع من السوريين الذين ملوا الحرب والصراع الدموي العبثي، ولم يعودوا يأملون في شيء سوى العيش كبقية أبناء البشرية في أمن، دون قتل وقصف ودمار. "الكيل قد طفح، وحان الوقت للتفاوض". هكذا عبر بجملٍ مخلة مختصرة الأمين العام للأمم المتحدة السيد بان غي مون. وسبب هذه النبرة الغاضبة واليائسة في آن معاً، هو حجم الدمار الذي لحق بسورية الدولة والمجتمع والمؤسسات والبشر. سورية التي لم يكن عليها أي دين خارجي، والتي أنتجت مبدعين عرباً في الشعر والرواية والفن التشكيلي والموسيقى والتمثيل.. وسواها من الحقول التي كان لأبناء دمشق وحلب وحمص واللاذقية وباقي المدن المتناثرة، نصيب وافر من الإبداع!. سورية التي تحدث عنها بان غي مون، هي تلك تتجاور فيها المذاهب والطوائف والأديان، دون أن يفقأ أحد عين الآخر، أو يصوب البندقية نحو صدره. وهي اليوم باتت حلماً متخيلاً يحنُ له أهله ممن عايشوه واحتسوه قدحاً قدحاً. لا يمكن للسيد وليد المعلم وأحمد الجربا، والوفدين المرافقين لهما (الحكومة والمعارضة) أن يبقيا غير مكترثين نحو بلدهما وهو يزداد دماراً يوماً بعد آخر. وإن أبسط شيء يمكن القبام به، هو أن يلجا في المفاوضات المباشرة التي تمهد لحل نهائي وتام للأزمة السورية. لا يمكن للوفدين السوريين أن يبقيا هكذا يحدقان في بعضهما البعض بكراهية وبلادة. عليهما أن يكونا عند حجم المسئولية التي تقع على كاهليهما. لأنه لا معنى أن تتربع على عرش الشام وهي خربة متخمة بجثث أبنائها المتفسخة. بالتأكيد إن مسألة التفاوض المباشر ليست بالأمر الهين، ودونها عقبات كثيرة، إلا أنها الطريق الأصوب نحو استقرار سورية، ومنع التدخلات الإقليمية والدولية فيها. المقاتلون المستوردون من وراء الحدود، لن يعودوا أدراجهم، إذا لم ينجح جنيف 2 في وضع لبنة لحل شامل، وهو الحل الذي يجب أن يصدر عن عزيمة سورية ويطبقه أبناؤها بأنفسهم، دون الاتكال على أي قريب أو بعيد. مسائل مثل تبادل السجناء، والسماح بمرور قوافل الغذاء والدواء، والوقف الجزئي لإطلاق النار في بعض المدن والمحافظات، كل تلك خطوات يفترض أن يخرج بها المجتمعون في "جنيف 2"، وهي أضعف الإيمان، وأقل ما يمكن أن يأمل المواطن السوري البسيط. إن "الأمل موجود، لكنه ضعيف"، على حد قول وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس. وهو أمل أمر الراحل سعد الله ونوس أن يُتمسك به: محكومون بالأمل. الأمل الذي يحكمُ السوريين لا يمكن الوصول إليه، وحالة الاستفراد، والرغبة في الحكم، تتحكم في أهواء الساسة السوريين موالاة ومعارضة. وهي طموحات يبدو أنها مستحكمة حتى الساعة لدى أصحابها. طموحات لا تكترث للمواطن البسيط، ولا تعتني به سوى في الخطابات الكلامية. رحم الله محمود درويش، حين قال: يحبونني ميتاً، ليقولوا: لقد كان منا، وكان لنا!.
مشاركة :