قبل عقدين قادتنى ظروف عمل خاص إلى جمهورية الصين الشعبية ، وكانت سانحة ترافقت مع إنعقاد مؤتمر علمى وجدتنى أشارك فيه . وخلال تلك الزيارة سعدت بزيارة سـفارتنا ، حيث قضيت وقتاً ممتعاً مع صديقنا الدكتور / محمد البشر سفيرنا بالصين ، تخلله نقاشات مثمرة ومفيدة عن الصين والتحولات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التى تشهدها . ضرورة إسـتراتيجية : لا أدرى لماذا خطر بذهنى السؤال عن من يشغل منصب الملحق الثقافي بسفارتنا ؟ . إلا أن إجابة سعادة السفير بأنه لايوجد من يشغل هذا المنصب ، لأنه لايوجد بسـفارتنا ملحقية ثقافية ، أثارت عجبى . وزادت دهشتى عندما سألته عن السبب ، فأجاب بأننا لا نملك طلبة من دولتنا بالجامعات الصينية ! . تعجبت لأن الملحقيات الثقافية لا يقتصر دورها على الإشراف والإهتمام بشؤون الطبة الذين تبتعثهم الدولة ، أو يبتعثهم ذووهم للدراسة في تلك الدولة ، بقدر ما يشكل هذا واحداً من وظائفها . بل يكاد ـ في حال وجود عدد كبير من رعايا الدولة كدارسين ـ أن لايكون من ضمن عمل الملحقية الثقافية رعاية شؤونهم ، إذ ستخصص وزارة الخارجية في هذه الحالة ، إدارة خاصة منفصلة لذلك تحت مسمى الملحقية التعليمية أو البعثة التعليمية ، حسب مستوى ونوع وكم هذا التعاون التعليمى . أما وظيفة ودور الملحقية الثقافية ، فأمر مختلف تماماً . ونستطيع أن نجد أمثلة على هذا كثيرة .. ترى كم هو عدد الطلبة الأمريكان أو الإنجليز أو الفرنسيين أو الصينيين الذين يدرسون بجامعاتنا ؟ .. ورغم هذا فإن لسفارات هذه الدول ملحقيات ثقافية . فما هو دورها ؟ .. بما أننا لاندعى الإطلاع على النوايا الخفية لهذه الدول في تخصيص ملحقيات ثقافية في سفاراتها بالمملكة ، أو في أي دولة أخرى ـ خارج المنظومة الثقافية والسياسية للغرب ـ فإننا سنكتفى بما يعلنونه هم من دوافع وأهداف ، وما تشهده أعيننا حين ترصد ـ ولو على السطح ـ حركة أفراد هذه الملحقيات . إذ تراهم يقيمون العلاقات بالجامعات ومؤسسات ومراكز الأبحاث ذات الصبغة العلمية والأكاديمية والثقافية ، ويسجلون زيارات لدور الصحف ، ويحاولون أن يفتحوا قنوات التواصل وإقامة العلاقات مع العاملين بهذه المؤسسات ، ويشاركون فى الندوات واللقاءات التفاكرية وغيرها من هذه النشاطات . والهدف في كل ذلك هو الترويج لصورة معينة لبلدانهم من خلال وسائط ثقافية ، وإعلامية ، وبالإتصال المباشر أيضاً ، وذلك لترسيخ صورة معينة عن بلدانهم وشعوبها وثقافتها ، تجعل من تفهم وجهة نظرهم من كافة الأحداث أمراً ممكناً ، إن لم يكن لصانعى القرار هنا ، فعلى الأقل للصفوة ، التي بدورها تؤثر في الرأي العام . ومن يقرأ كتاب الحرب الباردة الثقافية الذي أحدث ضجة مؤخراً ليس في عالمنا العربي وحده ، بل وفى العالم كله ، يدرك مدى خطورة وفاعلية الدور الذي يمكن أن تلعبه المراكز التعليمة التي يتم ربطها بطريقة لامباشرة بسياسات الدول ، التي تستخدم هذه المراكز الثقافية كأسلحة متقدمة في حربها الأيدلوجية وكسب الجولات الفكرية . والحال أننا في المملكة كنموذج للدول الإسلامية والعربية ـ لانطمح ، ولا نرغب ، في توظيف ملحقاتنا الثقافية هذا التوظيف الإمبريالي ، ولا نريد أن نغزو أحداً ما غزواً فكرياً ، ولا نفكر في السيطرة الفكرية على الآخرين . بل على العكس ، نحن المستهدفون بالغزو والمهددون بالسيطرة . ونسعى جاهدين كي ندرأ عن مجتمعاتنا هذا الخطر . وأعتقد أن واحدة من أهم الوسائل في ذلك هي هذه الملحقيات . المفـردات الثـلاث : فنحن نعيش في عالم يتجه للعولمة الشاملة ، بل هو يسبح في محيط من العولمة التي أصبحت واقعاً الآن . وفى ظل هذه العولمة ، فإن المستهدف الأول هو الخصوصية الثقافية للدول والشعوب والمجتمعات . بمعنى أن التنميط الإقتصادى والصناعي والتجاري والإستهلاكى في العالم الجديد لن ينجح إلا إذا تم إلغاء هذه الخصوصية . فالعواصم فى العالم المعاصر أصبحت متشابهة ، بل ومتماثلة ، سواءً من حيث تخطيطها ، أو شكل بناياتها وطابعها المعماري ، وفى المحلات ، الشركات متعددة الجنسيات التي تملأ شوارعها ، وتقدم أطعمة ومشروبات متماثلة ، وفى تصميم ولغة إعلاناتها المضيئة . وفى خضم هذه العولمة التي تجرى على قدم وساق ، ما الذي يعرفه الغرب الأوروأمريكى عنا ؟ ما الصورة السعودية في مخيلة الإنسان الغربي ؟؟ . لقد تم إختزالنا في ثلاث مفردات تشكل ، من ناحية ، صورتنا ، ومن ناحية أخرى هي العناوين التي تدل علينا وهى : الأماكن المقدسة ، والنفط ، والإنسـان . وإذا ما أخذنا كل مفـردة من هذه المفـردات ، وحللنا ظلها على صورتنا في مخـيلة ووجدان الآخر/الغربي الذي تربطنا به علاقات متشابكة : سياسياً وإقتصادياً وثقافياً وإجتماعياً ، ولكنها علاقة متوترة ، غير مستقرة . حينها سنعرف ما الذي يعنيه وجود ملحقيات ثقافية للمملكة في بلدان العالم المختلفة . ولنأخذ الحرمين الشريفين كعنوانين على المسلمين كافة ، وعلى السعودية كبلد بشكل أخص . فهما بالنسبة للمسلم في أي مكان من العالم يلقيان بظلال إيجابية فى نظرته للإنسان السعودي ، كمواطن فى بلد أختصه الله دون الأرض جميعاً ببيته الحرام ، وبقبر أكرم خلقه . إلا أن الغرب ـ الأوروأمريكى ـ وقد إستطاع أن يسحب معه العديد من دول العالم الثالث والعاشر أيضاً ـ أخد يتعامل مع الإسلام والمسلمين ـ بالتالي ـ كأعداء ، ليس له وحده ، بل وللحضارة ، والعالم كله ، من خلال تهمة الإرهاب .. هذا المصطلح الهلامي دلالاتاً ومفاهيماً ، والمفصل جيداً على مقاس الإسلام والمسلمين .. وعلى كلٍ فإن من شأن الغرب ، أن يخلق العدو إن لم يجده . وحسب هذا الطرح الإيديولوجى الجديد كان ولابد أن تحتل المملكة موقع الصدارة في لائحة الأعداء ، باعتبارها حاضنة هذه الهبة الإلهية أو المحظية بهذا الكرم الإلهي كقبلة تهفو لها قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، لوجود المقدسات الإسلامية على أرضها .. ومن هنا فإن النيل سياسياً من المملكة إنما هو في جوهره استهداف لقيمها الرمزية كقبلة للمسلمين .. وقد إقترح أحدهم بالأمس القريب أن تضرب مكة المكرمة بقنبلة نووية .. ولذا توصف المملكة ـ ككيان سياسي ـ بالممول للإرهاب والراعية الأولى له من خلال مؤسساتها الخيرية الخ من هذا الهراء ، خاصةً حين يخلط هذا بمواقف المملكة المبدئية الداعمة للحق العربي في فلسطين وقيادتها لهذا العمل عربياً . مابين الشهواني والتطهرى : ********************* أما المفردة الثانية ـ ولعلها الأولى من منظور آخر ـ فى العنوان السعودي غربياً فهي النفط . هذا النفط الذي ، ومنذ كشـر عن أنيابه إبان حرب 1973 كسلاح إقتصادى سياسي إستراتيجى ، أصبح هو بؤرة التخطيط السياسي الإستراتيجي في الغرب ، وفى الولايات المتحدة تحديداً والتي كانت تقود الغرب في حربها المقدسة آنذاك ضد المعسكر الشيوعي . وقد أكرم الله ـ ثانياً ـ هذا البلد بأن جعله الأمين على المخزون الإحتياطى النفطي الأكبر في العالم ، وإن كانت المنطقة كلها بهذا القدر أو ذاك من هذا المخزون . ويجرى فى أمريكا الترويج من قبل مراكز القوى والضغط ـ وهى صهيونية في الأصل ـ لفكرة أن أرواح الناس في أمريكا ، إنما هي في قبضة صاحب القرار السعودي ، وبالتالي فإن المحافظة على بقائهم أحياء ، يتمتعون بالرفاهية تستلزم السيطرة على منابع النفط . وحين تبدى المملكة ـ مثلاً ـ احتجاجها على الإنحياز الأمريكي المفضوح لإسرائيل التي تقوم بعملية إبادة منظمة وممنهجة للشعب الفلسطيني ، وتحاول بشتى الطرق السياسية والدبلوماسية ، لعب دورها الطبيعي كدولة ذات ثقل إسلامي نوعى وموضوعي في العالم . تهب القوى الصهيونية في أمريكا نابحة لتنشر الرعب في قلوب المواطنين الأمريكان ، وهم أساساً يجهلون ما يدور خارج أسوار بيتهم الأمريكي ، وتتعالى الأصوات : النفط .. النفط !! ونأتي إلى المفردة الثالثة وهى : الإنسان الخليجي ، والسعودي تحديداً . نحن نعرف كلنا ماهي الصورة النمطية للإنسان الخليجي عامة والتي تم تكريسها في الإعلام الغربى وفى وسائط الثقافة الجماهيرية . حيث تم تكريس صورة : الثرى المبذر الجشع الشهواني . وقد تم الإلحاح على هذه الصورة في الأفلام والمسلسلات والروايات والمذكرات المزورة بشكل متواتر ، حتى تم ترسيخها تماماً . وللأسف فقد أستغلت أخطاء البعض ممن لاتخلو منهم أمة أو مجتمع مهما بلغ طهـره الأخلاقي ، لتأكيد هذه الصورة وترسيخها . وبعد أحداث سبتمبر أضيفت لها صورة نقيض ، يجرى تسويقها والترويج لها عبر أجهزة الإعلام ، وهى صورة أسامة بن لادن ومن هم معه ممن كانت تدعمهم أمريكا إبان حربها ضد السوفيت في أفغانستان . وتختلط الصورتان في الذهن الأمريكي ، أو ذهن المواطن الأمريكي ويظل مشدوداً ما بين الثرى الشهواني ، والثرى الأصولي المتطرف . ما بين الذي يبدد الأموال بسخاء أخـرق .. وذلك الإسـتشـهادى المتطهر الذي يزرع الرعب والموت !! . هذه هي المفردات التي تشكل الصورة العامة ، أو التي أراد لها الإعلام الصهيوني ، أن تشكل صورة السعودي في مخيلة المواطن الأمريكي ، إن لم نقل الغربي ، فثمة أسباب موضوعية تجعل أوروبا أكثر تفهماً ، ونظرتها أكثر واقعية من هذا الهـراء الذى يجرى ترسيخه في أمريكا . مسـؤولية تاريخيـة *************** مثل هذه المعطيات تحتاج إلى عمل سياسي ضخم ، لايركز على مخاطبة الساسة في العواصم الغربية والآسيوية والأفريقية ، ولكن عمل يتم عبر مؤسسات المجتمع المدني ، ويعمل بالتنسيق أيضاً مع المؤسسات الحكومية ، وفى الجامعات ، ومراكز الأبحاث العلمية ، ليعكس الوجه الآخر أو الوجه الواقعي الحقيقي للمملكة كدولة .. والإنسان السعودي كإنسان . وهنا تستطيع أن تلعب الملحقيات الثقافية دوراً متعاظماً . ففي دولة كصين مثلاً ـ وهى مناسـبة هذا الحديث ـ حيث تربطنا بها علاقات تمتد على آلاف السنين ، ويربطنا بها إرث حضاري مشرقى مشترك .. مثلاً نحن نعرف أن الصين تتقدم في صناعة التكنولوجيا بخطوات واسعة ، ويتوقع الصينيون بعد عقدين أن يكونوا من الأرقام المتقدمة في صناعة وتجارة تقنية الاتصالات .. وأن الصين أصبحت مفتوحة سياسياً وإقتصادياً على العالم ، وأنها تقيم علاقات تبادل في مجال تصنيع التكنولوجيا حتى مع إسرائيل ، فلماذا لا نفتح أبواب التعاون والتبادل العلمي والثقافي معها في مجالات التدريب ، والتعليم التقني والفني ، وإقامة المراكز الثقافية بين البلدين ؟ . فإذا وضعنا في الاعتبار أننا مسئولون عن نشر الإسلام والثقافة العربية والإسلامية ، وأن في الصين ملايين المسلمين ، فلم لانكثف النشاط بينهم عن طريق المراكز الإسلامية لوصل حبال الأخوة بينهم وبين أخوانهم المسلمين هنا ، وفى العالم ؟ . أوليس هذا واجباً دينياً لايسقط ؟ . وما يُقال عن الصين ينطبق على أي بلد آخر في العالم تدعونا ظروفاً معينة على تخصيص ملحقيه ثقافية في سفارتنا به ، في أي قارة من قارات الدنيا . ليس درء الشبهات ، وتفنيد الأكاذيب وحدهما ما يجب أن تقوم به ملحقيتنا الثقافية .. ولكن أيضاً التعريف بنا للعالم ، وإقامة جسور التواصل والتعاون الثقافي بيننا وبين الشعوب والحكومات ، ما يمكن أن تقوم به هذه الملحقيات .. وقبل هذا وذاك نشر ثقافتنا .. ثقافة السـلام . خلاصة القول : ************ أننا بلد بقدر ما أكرمه الله بمقدساته وبخيراته الطبيعية ، بقدر ما وضع على عاتقه مسؤوليات جسام ، لحماية الإسلام من كيد من يكيدون له وللمسلمين . وأننا يجب أن ننهض بهذه المسؤولية مهما بدت كبيرة ، وثقيلة وشاقة ، فبعون الله نحن أهلاً لها .. وأن الحرب اليوم ـ في ظل العولمة ـ أصبحت حرباً ثقافية في المقام الأول ، وأن واحدة من الوسائل التي يجب توظيفها في هذه المرحلة هي الملحقيات الثقافية التي ستقوم بعملية الإستكشاف من خلال إتصالها الثقافي بالمراكز الثقافية الأهلية والحكومية ، والمراكز العلمية والأكاديمية .. فهلا أعطيناها بعض حقها لنقوم بدورها ؟ .
مشاركة :