في نظر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن التسامح من خصائص دين الإسلام ومن أشهر مميزاته، ويعتبره من النعم التي أنعم بها على اضداده واعدائه، وأدل حجة على رحمة الرسالة الإسلامية المقررة بقوله تعالى: (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين). ويرى ابن عاشور أن الإسلام وضع للتسامح أسسا راسخة، وعقد له مواثق متينة، وفصل فصلا مبينا بين واجب المسلمين بعضهم مع بعض في تضامنهم وتوادهم من جهة الجامعة الإسلامية التي تجمعهم، وبين حسن معاملتهم مع من تقتضي الأحوال مخالطتهم من أهل الملل الأخرى. وقاعدة هذه الأسس في تصور ابن عاشور هي القاعدة الفكرية النفسية التي تقرر أن الاختلاف ضروري في جبلة البشر، وأنه من طبع اختلاف المدارك، وتفاوت العقول في الاستقامة، ومتى ما تخلق المرء بهذا المبدأ أصبح ينظر إلى الاختلاف نظره إلى تفكير جبلي تتفاوت فيه المدارك إصابة وخطأ، لا نظره إلى الأمر العدواني المشير للغضب. وبقية أسس التسامح حاصلة في تقدير ابن عاشور بوصايا الإسلام بحسن معاملة المخالفين في الدين، ليهذب من الإحساس الذي ينشأ عن المخالفة حتى لا يتجاوز اعتقاد المسلم كمال حاله إلى أن يكون عدوا وحنقا وبغيضا لأهل الأديان من المخالفة في الدين. ومن ناحية التخلق والاكتساب، يعتقد ابن عاشور أن التسامح في الإسلام هو وليد إصلاح التفكير ومكارم الأخلاق اللذين هما من أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، فالفكر الصحيح يكسب صاحبه الثقة بعقيدته والأمن عليها من أن يزلزلها مخالف، فهو من هذه الجهة قليل الحذر من المخالف في العقيدة لا يشمئز من وجوده، ولا يقف شعره من سماعه. ومن جهة مكارم الأخلاق، يرى ابن عاشور ربما أحس المسلم من ضلال مخالفه بإحساس يضيق به صدره، وتملأ منه نفسه تعجبا من قلة اهتداء المخالفين إلى العقيدة الحقة، وهنا يجيء دور مكارم الأخلاق ليكون معدلا لذلك الحرج، وشارحا للصدر من الضيق حتى يتدرب على تلقي مخالفات المخالفين بنفس مطمئنة، وصدر رحب، ولسان طلق لإقامة الحجة من دون ضجر ولا سئامة. ومن ناحية الفعل والفاعلية، يرى ابن عاشور أن التسامح يظهر مفعوله في المواقع التي هي مظنة ظهور ضده، ويعني به التعصب، وحسب تقديره أن التعصب في الدين له مظهران، أحدهما وأقواهما يظهر في المعاملات الدينية التي تعرض عند الانفعالات الناشئة عن المخالف الديني، والمظهر الثاني يظهر في المعاملات الدنيوية التي تعرض بين فريقين مختلفين في الدين متجاورين في المكان. وإذا عرضنا تسامح الإسلام مع المخالفين في الدين رأينا حسب قول ابن عاشور، تسامحا كاملا واضحا في كلا المظهرين، الحال الذي جعله يعطي التسامح صفة العظمة الإسلامية. هذه طريقة ممنهجة في شرح رؤية ابن عاشور لمفهوم التسامح، تظهره بوصفه صاحب قول جاد في هذا الموضوع، وتؤكد هذه الرؤية حاجة العودة إليها، والتوقف عندها، والتبصر بها، لكل من يحاول دراسة مفهوم التسامح في المجال الفكري الإسلامي المعاصر. أمام هذه الرؤية فحصا وتبصرا، وبعد هذا الضبط والتحديد، يمكن الإشارة إلى الملاحظات الآتية: أولا: هذه الرؤية على أهميتها وجديتها وحيويتها لم يلتفت إليها مبكرا، وظلت لفترة من الزمن بعيدة عن المجال التداولي، ولم يتغير الحال معها كثيرا، فما زال الحديث عنها يحصل متقطعا، ويجري على نطاق محدود، حتى مع تطور وتصاعد الاهتمام بفكرة التسامح في المجال الإسلامي المعاصر. ولعل من الأسباب الراجحة لهذا الأمر، أن التراث الفكري للشيخ ابن عاشور بصورة عامة لم يعرف بالقدر الكافي ولم يتابع خاصة في منطقة المشرق العربي، وما زال على هذا الحال حتى هذه اللحظة، وهذا ما ينبغي التنبه له، والعمل على تداركه تقديرا واعترافا بأهمية هذا التراث. واللافت في الأمر أن عدم الالفتات إلى هذه الرؤية التسامحية لابن عاشور، لم يحصل عند أولئك المرتبطين بمرجعيات فكرية مغايرة له فحسب، وإنما حصل حتى عند أولئك المرتبطين بالمرجعية الفكرية الإسلامية. وللتثبت من هذا الأمر، فقد رجعت إلى ثلاثة مؤلفات لكتاب مشرقيين، تحمل في عناوينها تسمية التسامح، وصدرت خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبعد الفحص والنظر وجدت أنها لم تقترب ولم تتطرق أبدا لرؤية ابن عاشور التسامحية، وذلك لعدم الدراية بها قطعا. والتصويب على هذه الملاحظة، لكون أن ابن عاشور بالرؤية الجادة التي طرحها، يصلح أن يمثل محطة من المحطات التي يؤرخ لها في دراسة تاريخ تطور مفهوم التسامح في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، وذلك لأهمية هذه الرؤية من جهة، ولكونها ترجع إلى حقبة سابقة هي حقبة ستينات القرن العشرين من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة لندرة الكتابات حول هذا المفهوم في المجال الفكري العربي والإسلامي. ثانيا: لعل ابن عاشور لم يكن على دراية بكتابات الأوروبيين وأحاديثهم حول التسامح التي جاءت في وقت سابق عليه، ومنها كتاب (رسالة في التسامح) للفيلسوف الإنجليزي جون لوك، وكتاب (قول في التسامح) للفيلسوف الفرنسي فولتير، إلى جانب كتابات أخرى. عدم الدراية بهذه الكتابات أفقد قراءة ابن عاشور سمة المقارنة والبيان المقارن ما بين الفكرين الإسلامي والأوروبي، المقارنة التي تفيد في معرفة مفارقات المنهج، واختلاف طرق الأدلة، وتعدد مداخل البحث، إلى جانب الكشف عن طبيعة الأرضيات والسياقات المفارقة بين الفكرين. ولو كان ابن عاشور على دراية بهذه الكتابات لاقترب منها بصورة من الصور، نقدا وتحليلا، توافقا واختلافا، ولأضافت له وأكسبته خبرة ومعرفة.
مشاركة :