جعلت الكاتبة التركية إليف شافاك من «إسطنبول» مصدر إلهام رئيسي لأهم أعمالها الروائية، حيث تقول عن مدينتها الملهمة: «إسطنبول مدينة بصيغة المؤنث. إنها عشقي المتشابك، دائما مستقلة وعنيدة، عندما أكون بعيدا، أفتقدها من كل قلبي. تحتل أفكاري وتغزو أحلامي. أفكر فيها دائما، وأنا أقرأ وأكتب. إنها في كتاباتي الشخصية المهيمنة، والمشيئة الملازمة، ليس خلفية للمشاهد فقط، بل هي الروح الحرة. حتى وإن نأيت عنها بعيدا، فإني أحمل أجزاء منها. عندما أقيم في الأريزونا في وسط الصحراء محاطة بالصبار وطيور البوم، يمكنني أن أشم رائحة يود مضيق البوسفور في مهب الرياح. إن حياتي منفى فرضته على نفسي. وقد تمر أشهر، وسنوات. وبعد مرور بعض الوقت، أقرر العودة إلى إسطنبول، مدفوعة برغبة عميقة أن أقيم من جديد فيها وأستمتع بجمالها، وسحرها، ثم أبدأ بالتفكير بأنه حان الوقت، لأضع حقائبي هناك. ولكن .. إسطنبول مكثفة جدا، وتتطلب جهدا جهيدا، صاخبة جدا، ومزدحمة جدا .. كل شيء يفوق طاقته. وأنا المسافرة الأبدية، يصعب عليّ الاستقرار في مكان محدد. فأهرب محبطة من إسطنبول، وأقطع معها، مرة أخرى، ومرة أخرى .. نحن معا نعيش حبا مستحيلا. كنت في العشرين عندما زرتها للمرة الأولى. بعض المدن تدعونا، دون معرفة سبب ذلك. وصلت إليها وأنا لا أعرف أحدا. كنا في اليوم الأول من شهر شنتبر، عندما تبدأ مطاعم الأسماك بتقديم سمك البونيت ضمن لائحة الأطعمة. لم تكن لدي أية وظيفة، ولا بيت، ولا أصدقاء، ولكن كان لدي شعور لا يمكن تفسيره بأن هذا هو المكان الذي يجب أن أتواجد فيه». علاقة إليف شافاك بإسطنبول هي علاقة أورهان باموق ونديم غورسيل وغيرهم ممن عشقوا إسطنبول واختاروا الاستقرار في مكان آخر. إنهم يكتبون روح إسطنبول وليس روايات عن إسطنبول. تتحول سرودهم بفعل الالتصاق الحميمي بأمكنة المدينة إلى كتابة سير ذاتية كما يحدث بحدة وإصرار مع إليف شافاك التي تنتصب كتابتها معمارا خفيا لأسرار إسطنبول وتاريخها القديم والحديث. كما تتحول كتابتها إلى تأملات فلسفية عن وضعية المرأة بصفة عامة والمرأة الكاتبة بصفة خاصة. وبطريقة استعارية، تعرب إليف شافاك في كتاباتها عن شكوكها ومخاوفها وأسئلتها التي بدون إجابات، كما تعبر عن عدم القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة بين كتاباتها وحقيقة دورها الأمومي. تجادل أحيانا هذا الوضع الذي عاشته كاتبات أمهات وتحول أحيانا إلى تراجيديات حقيقية. هل اختارت الكاتبة هذا الطريق أو ذاك، عن وعي أم أن القدر يلعب دوره الميكيافيلي ليختبر الإنسان عامة بمشقة والكاتبة بصفة خاصة، وليضعهما أمام اختيارات صعبة وقرارات مصيرية. هكذا تكتب إليف شافاك بين مدينة متخيلة بعيدة المنال ووضع اجتماعي معقد أجمل الروايات وأشهرها في تركيا وسائر أنحاء العالم. فهي اليوم تسير على خطا مواطنها التركي أورهان باموق، تراكم مجدا أدبيا قد يبؤوها جائزة نوبل للآداب في مستقبل السنوات القادمة.
مشاركة :