* عرفتُ جدَّة في النصف الأول من الثمانينيَّات الهجريَّة، وكانت بأسواقها، وشوارعها مثل شارع قابل، وسوق الندى، والخاسكيَّة تمثِّل نمطًا فريدًا من المراكز التجاريَّة، ليس بين المدن العربيَّة الكبيرة، ولكنها تتجاوز ذلك الى العواصم الغربيَّة، ولعلَّ وقوعها على شاطئ البحر الأحمر حقَّق لها اتِّصالاً حضاريًّا على مدى قرون طويلة، وانصهرت في أرضها عادات وتقاليد متعدِّدة ومتنوِّعة، وكانت البيوتات التجاريَّة فيها تمثِّل مَعْلمًا اقتصاديًّا وتجاريًّا في الجزيرة العربيَّة -عامة- ممَّا أهَّلها لتكون محط أنظار الرحَّالة الذين مرُّوا بها في القرون المتأخِّرة (عربًا وغربيين). * ويذكر الرحَّالة ابراهيم رفعت باشا في رحلته الموسومة (مرآة الحرمين) ج1، ص: 23 بأنَّ «جدَّة ليست مرفأ مكة التجاري فقط، بل هي مرفأ الحجاز المهم، مشيرًا إلى أنَّ سكان جدة يحبّون سماع الألحان حبًّا جمًّا، وكأنَّ ذلك مركوز في طبيعتهم، مفطورة عليه نفوسهم». ولعلَّ القارئ لهذا الوصف يخرج بانطباع أنَّ الذوق الحضاري والفني ممَّا جُبل عليه سكانُ هذه المدينة. وكبقية مدن الحجاز نجد أن أحياء جدَّة المشهورة مثل: اليمن، والشام، والمظلوم، والبحر، وسواها تتجذَّر فيها العادات والقيم الأصيلة من شهامة، وكرم، وغيرة، ومؤازرة المظلوم والمحتاج. * لعلَّ هذه التوطئة أردتُ بها الولوج الى ما أثارته بعض صحفنا -وفي مقدمتها صحيفة البلاد- على خلفيَّة المسلسل الذي تعرضه قناة MBC تحت اسم (حارة الشيخ)، وقد لخَّص كلٌّ من الأديب الدكتور عبدالله مناع، ومعالي أمين جدة السابق الدكتور نزيه نصيف رؤيتيهما إزاء هذا المسلسل، أو العمل بأنَّه «لا ينتمي لتاريخ مدينة لم يكن فيها لا اسم المسلسل، ولا محاور النص الذي تضمَّنه، كما أنَّه لا يعكس حياة سكان جدَّة على مدى التاريخ القديم، وهو عبث لا يليق. «انظر: البلاد، السبت 12 رمضان، 1437هـ». * ويمكننا القول إنَّ أهل جدَّة أدرى وأعرف بتاريخها، وما يتَّصل بعاداتها وتقاليدها، لكن ممَّا يُفترض التوقف عنده هو أين قنواتنا الوطنيَّة من مثل هذه الأعمال الدراميَّة، وقد مضى على بداية البث التليفزيوني في بلادنا ما يقرب من نصف قرن من الزمن، وكان يمكن بالعزيمة الصادقة، والرؤية الاستشرافيَّة تقديم أعمال تحكي تاريخ أهم المدن في بلادنا من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، فكل منطقة تكتنز من التاريخ ما يدعو إلى التوقف عنده وإبرازه بالصورة اللائقة به بدلاً، من أن ينتدب الآخرون أنفسهم إلى هذه الأعمال الدراميَّة الهامَّة، وقد تنقصهم الخبرة والدراية، وليس بالتالي بمقدورهم أن يجسدوا أحداث التاريخ وخصوصًا أنَّ هناك تاريخًا مدوَّنًا، وآخر شفهيًّا، وهذا الأخير هو ما حفلت به الأحياء القديمة بتراثها الأصيل، والذي يفترض أن تشاهده الأجيال الناشئة، وتتوقف عنده. * ولعلَّي أشير في هذا السياق إلى العمل الموثَّق الذي قام به الكاتب والإعلامي الابن محمود صباغ عن الأديب الرائد حمزة شحاتة، فلقد كان عملاً توثيقيًّا رائعًا، وكذلك ما قام به الإعلامي الابن وائل فؤاد أبو منصور من توثيق للعبة المزمار الشعبي، وبصورة دقيقة، حيث تنقل بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة؛ ليقف على جذور هذه اللعبة الشعبيَّة والتي يُفترض أن تقدَّم في صورة فنيَّة خالصة بعيدة عن العنف الذي التصق بها من البعض، وجاء هذا العمل كمحاولة لإبراز الجوانب الايجابيَّة فيها، ولعلّ الأمل معقود على المسؤولين عن التليفزيون السعودي لتشجيع مثل هذه الأعمال التوثيقيَّة، والتي ضربنا بها مثلاً من خلال عملين أحدهما أدبي وتاريخي، والآخر فني وشعبي. ولعلَّ وزارة الثقافة والإعلام والتي يقف على رأس هرمها شابٌ طموحٌ ومثقفٌ هو معالي الدكتور عادل الطريفي هي التي يناط بها التشجيع على تقديم الأعمال التي تندرج ضمن الحفاظ على تاريخنا، وتثبيته في عقول ونفوس أبنائنا والعمل كذلك على إشاعة أجواء الفرح والسرور من خلال الاهتمام بكافة الفنون، والتي تُعتبر جزءًا من تاريخنا الحضاري والثقافي.
مشاركة :