أحمد رحمي يكتب عن آثار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: خريطة جديدة تبدأ بذورها بالنمو

  • 6/26/2016
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

منذ شهر ونصف وفيضانات عارمة تجتاح القارة الأوروبية، فاض على إثرها نهر "السين" في فرنسا بمعدل لم يحدث منذ العام 1982، لدرجة دعت "فرنسا" إلى وضع كنوز متحف اللوفر في خزائن آمنة خشية تأثر المتحف بالفيضان وتلف هذه الكنوز التاريخية. وفي تصريح للرئيس الفرنسي "فرانسوا أولاند" عن هذه الفيضانات قال: (عندما نعاصر مثل تلك الظواهر المناخية المفاجئة والقاسية، يجب علينا أن ندرك أنه لابد لنا من العمل سوياً لمواجهتها على المستويات العالمية وليس المحلية). وكأن الطبيعة بهذه الظواهر المناخية كانت تحاول تحذير الأوروبيين من الفيضان الأخطر الذي سيجتاح بلادهم في الفترة القادمة، والذي بدأ فعليا منذ ساعات قليلة وتحديدا صباح الجمعة 24 يونيو بإعلان نتيجة استفتاء انفصال "المملكة المتحدة" عن الاتحاد الأوروبي، والتي حسمت الانفصال بنسبة 52%، مع صدمات متعاقبة في "المملكة المتحدة" بعد إعلان النتيجة من انهيار للجنيه الإسترليني أمام اليورو والدولار بمعدلات لم تحدث منذ 31 عاماً، وانخفاض شديد لليورو مقابل الدولار في مشهد لم يحدث مذ ظهور اليورو، مع استقالة لرئيس الوزراء "ديفيد كاميرون"، وتصريح من وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد أند بوورز" بترجيح تخفيض التصنيف الائتماني الممتاز للمملكة المتحدة بعد إعلان نتيجة التصويت الجمعة. (جدير بالذكر أن "ستاندرد أند بوورز" هي الوحيدة من الوكالات الثلاث العالمية التي تبقي على التصنيف الممتاز للمملكة حتى الآن بعد أن تم تخفيضها في 2013 من قبل الوكالتين الأخريين.) *** وشهدت البورصة البريطانية انخفاضا حادا بنسب تصل إلى 9% عند فتح التداول بعد إعلان النتيجة، وبدأت البنوك الإنجليزية في وضع خطط بديلة وعقد اتفاقات استراتيجية مع البنوك المركزية حول العالم لتدارك أي انهيار بنكي قد يحدث. وعلى مستوى آخر وفيما يخص خطوات ما بعد نتيجة الاستفتاء، فعلى "المملكة المتحدة" في أقل من عامين وفقاً لشروط الاتحاد الأوروبي إنهاء عملية "الطلاق" كما أُطلق عليها، والتي تستدعي تسوية نصيب المملكة في ميزانية الاتحاد فوراً بكل تعقيدات مثل هذه العملية. وأيضاً فك الارتباط في القوانين المشتركة بين المملكة والاتحاد والممثلة في أكثر من 80 ألف صفحة مكدسة بقوانين كانت تنظم شتى مناحي الاقتصاد والسياسة بين الطرفين، مع فك الارتباط التجاري وإلغاء الاتفاقيات التجارية، ما قد يستغرق خمس أعوام في المتوسط (ستعمل المملكة المتحدة خلالها بقوانين واتفاقات "منظمة التجارة العالمية" في تعاملاتها مع دول الاتحاد). يتبقى تحديد وتقنين وضع أكثر من 2 مليون مهاجر أوروبي يعيشون ويعملون على أراضيها بموجب كونها في السابق جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وتوقع المعاملة بالمثل لنفس العدد تقريباً من مواطنيها المهاجرين لدول أوروبية أخرى. "المملكة المتحدة" على الصعيد الداخلي عليها توقع ثورات داخلية في المفاهيم الراسخة وطلب طرحها على الاستفتاء الشعبي، كمفهوم "الملكية الدستورية" في حكم البلاد ووجود العائلة المالكة كجزء من نظام الحكم في البلاد، والذي طالب الصحفي "مات أيتون" من جريدة "الإندبندنت" بالفعل بطرحه للاستفتاء بعد النتيجة الإيجابية لاستفتاء الانفصال على حد زعمه، ويجب عليها أيضاً توقع طلبات استفتاء للانفصال من "اسكتلندا" و "أيرلندا الشمالية" واللاتي صوتن برفض الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الأخير، وذلك على الرغم من رفض الشعب الاسكتلندي الانفصال عن "المملكة المتحدة" في استفتاء 2014 بنسبة 55% إلا أن الزعيمة السياسية لإسكتلندا ورئيسة حكومتها "نيكولا ستيرجن" أعلنت الجمعة 24 يونيو أن الظروف التي بُني عليها استفتاء انفصال اسكتلندا في العام 2014 مختلفة تماما عن ظروف اليوم، وعليه فإنها وحكومتها بدأوا بالفعل في الإعداد لاستفتاء ثان لانفصال "اسكتلندا" عن "المملكة المتحدة" ولكن ما سبق يعد أبسط ما يمكن حدوثه وتوقعه من فيضان تاريخي مثل هذا. *** والتوقعات العالمية جميعها تنبئ بحدوث سيولة سياسية واقتصادية عالمياً لا يستطيع تحديد مداها أعتى وأمهر الخبراء الاستراتيجيين والاقتصاديين في العالم. والمتفق عليه أن خريطة قوة اقتصادية وسياسية جديدة تبدأ بذورها في النمو والتكوين منذ إعلان النتيجة، فالاتحاد الأوروبي منذ ارهاصات نشأته في العام 1951 وقتما كان يعرف بالسوق الأوروبي المشترك وقبلها "اتحاد الصلب والفحم الأوروبي"، كان بمثابة صمام الأمان في هذه القارة من أية حروب ونزاعات متوقعة، حيث اتفق الأوروبيون ولأول مرة في تاريخهم الممتد من الحروب والتقاتل المميت أن يُعلوا صوت "المصلحة" فوق أي صوت عرقي أو وطني. وكان بمثابة القوة الثالثة بعد أمريكا والاتحاد السوفيتي وقتها قبل دخول الصين المشهد كلاعب اقتصادي مؤثر. وعلى مر السنين تحول الاتحاد الأوروبي بمؤسساته إلى "دولة" موحدة وقوية باقتصاد يوازي تقريباً اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، ويزيد 15% عن إجمالي الناتج المحلي لجمهورية الصين الشعبية. على رأس هذه التوقعات هو انفصال دول أخرى عن الاتحاد الأوروبي بل وانفراط عقده بالكلية في سيناريو أكثر تشاؤماً، والذي أصبح وشيكاً ومنطقياً بعد خروج المملكة المتحدة كلاعب رئيس وفاعل في هذا الاتحاد، وليس أقوى من هذا الخروج شرارةً لثورة الانفصال الأوروبي، واللاعبين الرئيسيين في الاتحاد الأوروبي على جاهزية كبيرة واستعداد بالفعل لمثل هذا الانفصال. ففي فرنسا وفي انتخابات مجلس النواب الفرنسية عام 2014 ولأول مرة في تاريخ فرنسا بل وأوروبا اكتسح حزب "الجبهة الوطنية" نتيجة الانتخابات بنسبة 25% من الأصوات وحصل على 32% من مقاعد البرلمان، وكما هو معروف فهذا الحزب معادٍ وبقوة لفكرة الاتحاد الأوروبي وضد مبادئ العملة الموحدة والهجرة الداخلية منذ إعلان الاتحاد الأوروبي بشكل رسمي في عام 1993، وزعيمته الحالية "مارين لوبين" وابنة مؤسس الحزب والتي تجيء من أقصى اليمين تسعى، مرشحة وبقوة للفوز بمنصب رئيسة جمهورية فرنسا في انتخابات 2017 أبريل القادم. وبالمناسبة "مارلين لوبين" دعت إلى حملة Frexit على غرار حملة Brexit والتي كانت وقود جبهة الانفصال في استفتاء "المملكة المتحدة"، وصرحت بعد إعلان نتيجة الاستفتاء (ما كنا نظنه مستحيلا بالأمس، بات اليوم واقعاً.) ليست فرنسا فقط المرشحة لتكرار تجربة "المملكة المتحدة"، "هولندا" أيضاً على لسان "جيرت وايلدرز" مؤسس وزعيم "حزب الحرية الهولندي" والذي جاء في المركز الثالث بنسبة 14% في انتخابات البرلمان الهولندي لعام 2014 من حيث التصويتات والمركز الثاني من حيث عدد المقاعد في البرلمان، قال: (نريد استعادة السيطرة على بلدنا، وعلى حدودنا، وعلى أموالنا، وعليه فلابد من الانفصال عن الاتحاد الأوروبي). "جيرت وايلدرز" ممثل لليمين المتطرف وهو صاحب التصريحات الشهيرة والمعادية للمسلمين في بلاده وتشبيهه للقرآن بأنه يشبه كتاب "كفاحي" لهتلر، وبالمناسبة فحزبه مرشح بقوة للفوز بأغلية في انتخابات مارس 2017 ومن ثم الحصول على رئاسة الوزراء وقيادة البلاد. *** يبقى تساؤل أخير في نهاية الكلام، ويطرح نفسه بقوة بعد تصريحات "دونالد ترامب" مرشح الرئاسة الأمريكي الجمعة 24 يونيو أثناء زيارة عمل لإسكتلندا بعد إعلان نتيجة الاستفتاء، والتي قال فيها "المكان هنا مليء بالحماسة بسبب التصويت، لقد استعاد الإنجليز دولتهم كما سنستعيد أمريكا دولتنا قريبا"، والتساؤل هنا: هل هذا مؤشر ودلالة على عودة العالم مرة أخرى لتغليب المفاهيم القومية والوطنية والعرقية على مفاهيم التحالفات الدولية والمجتمعات الكوزموبوليتانية؟ وهل هذا نذير ونبوءة بفوز مرشح صاحب أجندة اقصائية واضحة مثل دونالد ترامب؟ وخصوصاً بعد أن أثبتت نتيجة استفتاء انفصال "المملكة المتحدة" أن الشريحة العمرية التي انتصرت للانفصال هي الشريحة العمرية الأكبر والتي جاوزت الستين عاماً في السن، وهو ما قد يكون الحال في أي استفتاء شعبي أو انتخابات حول العالم.

مشاركة :