فتى الشاشة الأول... عماد حمدي (2 - 10)

  • 6/27/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

التحق عماد حمدي (وشقيقه التوأم) بكلية التجارة انصياعاً لرغبة الوالد، وهناك جرب أدواته الفنية في مسرح المدرسة، قبل أن يقترب من فرقة «أنصار التمثيل والسينما»، التي كان يشرف عليها أستاذه السابق عبد الوارث عسر. لكن حياة المال عطلت حمدي الذي افتتح شركته الخاصة تحت رعاية عملاق الاقتصاد المصري طلعت حرب، إلا أن الأمور لم تمض كما كان يخطط لها. تحطم حلم عماد حمدي وشقيقه عبدالرحمن في الالتحاق بمدرسة الطب العليا، فبعد مناقشتهما مع والدهما ورفضه التحاقهما بمدرسة الطب أو الطيران لارتفاع كلفة الدراسة فيهما، وعدم قدرته على سداد رسومهما الدراسية نظراً إلى بقية مصاريف الأسرة، وفي وقت لم يكن مسموحاً للأبناء مناقشة الآباء في أي موضوع، وكلماتهم المطاعة تنفذ على الجميع، لم يجد عماد وعبد الرحمن مفراً من الانصياع لرغبات الوالد. لم يشفع تفوق الشقيقين لدى الأب ليبدل رأيه، فقدما أوراق التحاقهما بمدرسة (كلية) التجارة. شكلت المصاريف عبئاً على الأسرة من الناحية المالية، فالوالد موظف لا يملك سوى راتبه، والأم ربة منزل تتابع شؤون أولادها. أدرك الأب أن التوأمين دخلا مرحلة جديدة من حياتهما، فخصص لكل منهما مصروفاً قدره 10 قروش (عشر الجنيه المصري) أسبوعياً، وعندما أبلغتهما والدتهما بالأمر، قررا مناقشة والدهما، فالمصروف لا يكفي مصاريف المواصلات وشراء الأكل خارج المنزل. عماد: يا بابا عاوزين نزود المصروف حبه، نينا بلغتنا أنك قررت نص ريال. الأب: أيوه وكده كويس جداً. عبد الرحمن: لكن المدرسة بعيدة والمشوار طويل. الأب: الميزانية كده كويسة أنتم نسيتوا إني بأدفعلكم 24 جنيهاً في السنة... ولسه فيه مصاريف أخوتكم اللي بيتعلموا. عماد: لكن يا بابا ده الحلاقة في المرة الواحدة بتكلفني 5 قروش يعني نص مصروفي في أسبوع. الأب: ده آخر كلام عندي ما فيش زيادة في المصروف، كتر الفلوس يفسد العيال. الحرص على التعليم لدى عماد وعبد الرحمن جعلهما يتحملان مشقة الذهاب إلى مدرسة التجارة سيراً على الأقدام، نحو 6 كيلومترات ذهاباً وإياباً، فالمدرسة كانت تقع في شارع الشيخ ريحان، وكانا يبكران في الذهاب من منزلهما في شبرا، فالطريق تستغرق نحو ساعة مشياً على الأقدام. لم يكن من المعقول أن يعيش الطالبان بنصف ريال لكل منهما، وكانت والدتهما الملجأ الوحيد لإعانتهما على الأزمة المالية التي يمران بها، ولم تكن إعانات والدتهما من مصروف البيت تتوقف، فاتسمت حياتهما بالرخاء، لا سيما في نهاية الأسبوع، عندما كانا يتناولان الغداء أو العشاء في نادي التجارة العليا، أحد أشهر نوادي تلك الفترة. العلقة الأولى رغم تفوق عماد وعبد الرحمن في دراستهما في المراحل التعليمية السابقة، فإن المشاكل التي واجهتهما في مدرسة التجارة كانت أكبر من قدراتهما، فرسبا في امتحانات المجموعتين الاقتصادية والمكتبات، وكادا أن يسقطا في السنة الدراسية، فعنفهما والدهما وضربهما للمرة الأولى بقسوة، وكانت مفاجأة للعاملين في المدرسة أن ينجحا في امتحان الملحق وفي السنة الأولى، وحصلا على تقدير على عكس التوقعات. عاد حنين عماد حمدي إلى التمثيل من خلال فرقة مدرسة التجارة العليا، إحدى أكثر فرق الهواة انتشاراً في تلك الفترة، ما أتاح له فرصة الوقوف على المسرح في أعمال جيدة، بالإضافة إلى الاحتكاك بالفرق المسرحية ومشاهدة أعمالها، لكنها كانت انطلاقة خجولة في عالم الفن، لم يحصد حمدي من خلالها إلا معرفة أولية بقدراته التمثيلية. تميز عماد حمدي بمعرفة الحدود التي يمكن أن يعمل بها، ومع أنها عطلته فنياً لاحقاً، إلا أنها جنبته مواقف محرجة كان يمكن أن يتعرض لها، ورغم متابعته فرق «منيرة المهدية»، «جورج أبيض»، «رمسيس» و«علي الكسار»، التي كانت مشهورة في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينيات، لم يطلب الالتحاق بها لأنها تضم عمالقة الفن في تلك الفترة، فلم يجد سوى فرقة «أنصار التمثيل والسينما»، التي تضم هواة التمثيل فضلاً عن مشاركة أستاذه السابق عبد الوارث عسر مع سليمان بك نجيب في الإشراف على نشاطها. تعلم عماد حمدي كثيراً عن التمثيل، فكان يستمع لنصائح مدربي الفرقة، يجلس يتابع ما يقولون، ويشاهد كيف يتعاملون مع النصوص الأجنبية وترجمتها لتناسب الجمهور المصري، ومن خلالهم تعلم الارتجال على المسرح، كسر رهبة الوقوف أمام جمهور مختلف وكبير في كل ليلة، فكانت الهواية تزداد لديه، فيما شقيقه لم يكن من هواة الفن، ولم يذهب معه إلى المسرح إلا نادراً، لكن عماد لم يفكر باحترافه رغم عدم اعتراض والديه على مشاركته في المسرحيات التي قدمتها الفرقة. في تلك الأثناء، كان عبد الرحمن وعماد قد انتهيا من دراستهما بكلية التجارة العليا، وراحا يفكران في المحطة المقبلة، فحياة الطلاب انتهت، وانعدام المسؤولية لم يعد رفاهية متوافرة، وعليهما التفكير في مستقبلهما، والخطوات التي سيتخذانها في الأيام المقبلة بعد تفوقهما بالدراسة، فابتعد عماد حمدي عن التمثيل، وقرر التعامل مع الواقع الجديد. جلس عبد الرحمن وعماد يتناقشان في مستقبلهما، مثلما عاشا معاً في طفولتهما على الحلوة والمرة، قررا التفكير سوياً في المستقبل القريب. سأل عبد الرحمن شقيقه عماد: هنعمل إيه دلوقتي؟ عماد: مش عارف بس إيه رأيك نقدم في وظيفة؟ عبد الرحمن: لا أنا ما بحبش الوظيفة، إيه رأيك نعمل مشروع تجاري مع بعض؟ عماد: إزاي، هو أحنا معانا فلوس؟ أنت ناسي أن أي مشروع جديد عاوز رأس مال وإحنا لسه متخرجين؟ عبد الرحمن: إيه رأيك نطلب من بابا؟ عماد: أنت ناسي أنه دخلنا مدرسة التجارة علشان يقدر يوفر فلوس لتعليم إخوتنا؟ وساعدنا كثير علشان نخلص مدرسة التجارة وهو دلوقتي بقى على المعاش كمان؟ عبد الرحمن: طيب أنت شايف إيه؟ عماد: مش معقول نطلب منه أكتر من إمكانياته، أنت عارف أن ماما كانت بتساعدنا من مصروف البيت، أنا بأفكر أننا ندخل مجال جديد. عبد الرحمن: إزاي؟ عماد: إيه رأيك لو فتحنا مكتب إعلانات منشورة في الجرايد. عبد الرحمن: ورأس المال هنجيبه منين؟ أنت ناسي أن أي مكتب محتاج رأس مال في الإيجار وفي الأدوات كمان؟ صمت عماد وعبد الرحمن قليلاً ونطقاً مرة واحدة: طلعت باشا حرب. لقاء العملاق كان الاختيار صائباً من الشقيقين، فرائد الاقتصاد المصري طلعت حرب أسس بنك مصر في عام 1920 وشركات عدة بهدف تمصير الاقتصاد المصري وتحريره من سيطرة الأجانب، وبدأ سياسة تشجيع الشباب لتنفيذ مشاريع جديدة بأياد مصرية. كان اليهود يسيطرون على شركات الإعلان في الصحف، في تلك الفترة، وعددها محدود للغاية، لذا وجدا في الفكرة ملاذاً آمناً للمشروع الخاص الذي يطمحان في تنفيذه من دون التقيد بوظيفة يعملان فيها لصالح الغير، وتلزمهما بمواعيد محددة تشعرهما بقيود لا تناسب مرحلة الشباب التي يعيشانها. اتفق الشقيقان أن يقصدا في اليوم التالي مكتب طلعت باشا حرب للاجتماع به وعرض الفكرة عليه، وأعدا الأوراق التي تتضمن تصورهما المبدئي حول طبيعة الشركة والتصميمات التي يتم تنفيذها، فاستغرقا في النوم وفي داخلهما أحلام كثيرة، وتطلعات أكبر، وخوف من صدمة رفض مشروعهما الجديد. لكن الأمل ظل مسيطراً عليهما بشكل أكبر من الشعور بالإخفاق، فالأخبار التي اطلعا عليها في الصحف عن مساعدة طلعت حرب للشباب شحنتهما بطاقة إيجابية ورسمت لديهما صورة ذهنية عن عملاق الاقتصاد المصري. استيقظ الشقيقان مبكراً وتوجها إلى مكتب طلعت باشا حرب في وسط القاهرة، وبصحبتهما الأوراق الخاصة بالمشروع، وسرعان ما وجدا نفسيهما داخل مكتبه، فلم يستغرق انتظارهما سوى دقائق قليلة، وكان طلعت باشا أمر سكرتيرة مكتبه بأن يدخل الشقيقان إليه على الفور، وجلسا أمام رائد الاقتصاد الوطني. بدأ عماد حديثه قائلاً: {يا باشا، إحنا خريجي مدرسة التجارة وكنا عاوزين نفتح مكتب للإعلان الصحافي لكن المشكلة في الموارد المالية. عبد الرحمن: وعلشان كده قررنا نيجي نطلب المساعدة من حضرتك، خصوصاً أننا عارفين مساندتك ودعمك للشباب... ومتابعين الأنشطة والشركات اللي حضرتك بتأسسها خلال الفترة الحالية. لم يكد الشقيقان ينتهيان من حديثهما حتى رفع طلعت باشا سماعة هاتفه وأمر بإسناد الإعلانات الخاصة بشركات بنك مصر إلى مكتب الشابين، وكانت عائدات التعاقد عدة آلاف من الجنيهات، فصرف جزءاً منها لهما لتجهيز الأوراق، وطلب منهما تجهيز المكتب سريعاً وعرض التصميمات عليه بأقرب فرصة في صيغتها النهائية لاعتمادها. خرج الشقيقان وهما يفكران في طريقة إنشاء المكتب بأقل النفقات، فاستأجرا مكتباً وسط القاهرة ليكون مقر الشركة الجديدة، لكن بقيت المشكلة الرئيسة في توفير الأدوات التي سيبدآن بها تصميم الإعلانات، فالأموال التي حصلا عليها كدفعة مقدمة من إعلانات بنك مصر انفقاها في استئجار الشقة. هنا فكر عماد حمدي في اللجوء إلى أدوات الرسم التابعة لوالدهما، مهندس السكة الحديد المتقاعد، والموجودة في غرفة مغلقة منذ سنوات، هكذا لن تكون لديهما حاجة إلى شراء أدوات جديدة. لم يكن عماد وعبد الرحمن يجرآن على مفاتحة والدهما في الأمر، فرغم دخولهما مرحلة النضج والشباب فإن خوفهما منه ومن رد فعله دفعهما إلى اللجوء إلى عمهما، الذي استمع إلى شرح تفصيلي من عماد عن المشروع الجديد، ووجد أن الطريقة المناسبة هي كسر القفل الموجود في باب الغرفة من دون علم والدهما، لا سيما أنه نادراً ما كان يمر أمام الغرفة المنسية. كسر الشقيقان باب الغرفة وحصلا على أدوات الرسم، ونقلاها إلى مكتبهما في شارع شريف بوسط القاهرة، برفقة اثنين من زملائهما، اللذين شاركا معهما في تأسيس الشركة، وكانت إعلانات بنك مصر التي أمر بها طلعت باشا الدفعة الأولى التي جعلت الشركة تحقق أرباحاً منذ انطلاقها، لتتوالى نجاحات الشقيقين، خصوصاً أن الشركة صممت إعلانات شيقة للجمهور نظراً إلى الأفكار المبتكرة التي تميزت بها في تلك الفترة. عرض جديد ساعد نجاح الشركة المتصاعد عماد وعبد الرحمن في توسيع نشاطهما ليشمل إعلانات الشوارع واللافتات الدعائية التي ظهرت بكثافة في شوارع القاهرة، وساعدهما في ذلك النجاح الذي حققته الشركة عبر إعلانات الصحف، فتحولت حياتهما إلى الأفضل ليس بسبب الأموال التي كسباها فحسب، بل لشعورهما المتزايد بالنجاح والثقة بالنفس. وقبل أن تتم الشركة عامها الأول، استدعى طلعت باشا حرب التوأمين، لكن عبد الرحمن لم يتمكن من الذهاب لوعكة صحية ألمت به قبل اللقاء بوقت قصير، فذهب عماد بمفرده ودخل مكتب الباشا. انتظره إلى حين الانتهاء من توقيع بعض الأوراق، وقال له: إيه رأيك لو نضم شركة الإعلان إلى شركات بنك مصر؟ علت حمرة الخجل وجه عماد من دون أن يترك أي تعليق، ليكمل طلعت باشا حديثه قائلاً إنه سيعيّنه مديراً لها. كان للخبر وقع الصدمة على عماد حمدي فتعثر في الرد قليلاً وقرر سريعاً الاعتذار بتهذيب عن عرض طلعت باشا، وغادر المكتب وهو يشعر بالضيق، فرغم اعترافه بفضل طلعت باشا عليه وعلى شقيقه ومساهمته في إنجاح الشركة، لكنه وجد في دمجها مع كيان بحجم شركات بنك مصر فقداناً لنجاحه في شركته. عاد عماد إلى شقيقه في المنزل، وأخبره بما حدث، وافق عبد الرحمن على رأي عماد، وأثنى على قراره واستأنفا العمل. لكن في غضون أيام قليلة خرج زميلاهما في الشركة منها، بحجة أنهما سيعملان لصالح إعلانات بنك مصر من خلال شركة جديدة سيتم تأسيسها عما قريب، وكان انسحابهما بداية الانهيار للشركة الوليدة التي قامت أرباحها في الأساس على إعلانات بنك مصر وقرر مؤسسه أن تكون من خلال شركة خاصة بالبنك. توقفت شركة عماد وعبد الرحمن عن العمل ولم تعد تجد عملاء لها، فاغلقاها واعلنا إفلاسهما وعمدا إلى تسوية أوضاعهما المالية، إذ كان من المستحيل أن يستمرا من دون وجود معلن قوي يدفع آلاف الجنيهات في تصميم الإعلان وتوزيعه على الصحف. لم يجد الشقيقان مفراً من البحث عن وظيفة جديدة، فلا يليق بشابين انهيا دراستهما وأسسا شركة استمرت أشهراً أن يجلسا في المنزل بلا عمل، فبدأ كل منهما البحث عن وظيفة جديدة تناسب مؤهلاته الدراسية، لم يستمر البحث طويلاً فبعد أيام وجد عماد وعبد الرحمن فرصة عمل، كل في مكان مختلف، لتكون بداية الافتراق في الحياة العملية، فأين ذهبا وماذا حدث؟ تهمة الغش تطارد عماد حمدي التشابه بين عماد وعبد الرحمن أوقعهما في مواقف مضحكة ومأساوية، لم يكن والدهما يفرق بينهما، وأحيانا يعاقب أحدهما بذنب الآخر. إلا أن عماد عرف كيف يستفيد من هذا التشابه. في إحدى المرات وضع صورة شقيقه على الشهادة الخاصة به لعدم عثوره على صورة له، إلا أن الموقف الأصعب كان في امتحان السنة النهائية في مدرسة التجارة. كان امتحان اللغة الإنكليزية ينقسم إلى شقين: الأول شفوي والآخر تحريري، ويواجه الطلاب صعوبة في تجاوزه بسبب قسوة مدرّس اللغة الإنكليزية الذي ترسله الوزارة للإشراف على الامتحان، ووقف في طريق طلاب كثر للحصول على البكالوريا. وبحكم ترتيب الأسماء دخل عبد الرحمن الامتحان قبل شقيقه عماد الذي شك المدرس فيه فور دخوله، باعتبار أنه الشخص نفسه وعاد ليمتحن مرة أخرى. لم يتخيل أستاذ اللغة الإنكليزية أن التشابه بين عماد وشقيقه لهذه الدرجة، وسأله بمجرد دخوله عن المرة التي امتحنه فيها سابقاً، فأخبره عماد أنه يمثل أمامه للمرة الأولى لكنه فشل في إقناعه. وظل الأستاذ يسأله ويطلب منه قراءة المزيد من النصوص أمامه، حتى أوقفه منزعجاً وصارخاً: {ستوب، أنت تخدعني امتحنتك منذ قليل وكنت ترتدي ملابس مختلفة والآن جئت لإداء الامتحان مكان شخص آخر}. حاول عماد إقناع الأستاذ بأنه امتحن شقيقه عبد الرحمن وليس هو، لكنه فشل أمام إصرار الأستاذ على رفض استكمال الامتحان، فطلب منه عماد فرصة لإحضار شقيقه لإقناعه بأنهما شخصان، وليسا شخصاً واحداً، لكنه تردد قليلاً خلال الحديث خوفاً من أن يكون شقيقه غادر المدرسة من دون انتظاره. وبمجرد خروجه من غرفة الامتحان، وجد شقيقه فأسرع به إلى أستاذ اللغة الإنكليزية، الذي ما إن رأى التوأمين معاً حتى وافق على استكمال عماد حمدي الامتحان ، بعدما ظهرت براءته من تهمة الغش. التفاصيل في الحلقة المقبلة

مشاركة :