حين استلمنا أول دفعة من وثائق ما عرف لاحقاً بـ «بنما بايبرز» (عددها 11.5 مليون وثيقة مسربة)، لم نعرف ما بين أيدينا. وجل ما كنا نعرف أن شركة موساك فونسيكا هي مساهم بارز في العمليات المالية «الاوفشور» (ما وراء البحار). ولكننا أدركنا أن المُخبر قادر على أخذنا في جولة وراء الكواليس الصفيقة. ولم ندرك وزن ما وقعنا عليه إلا بعد أن رصدنا في الوثائق اسم ثالث أو رابع رئيس من رؤساء الدول، وحين لاحظنا أن البيانات تشير الى نجوم من عالم الرياضة (ميشيل بلاتيني وجياني إنفانتينو وليونيل ميسي) وكبار المجرمين. ووقعنا كذلك على قصة لوحة موديغلياني التي فقد أثرها بعد أن سرقها النازيون الى أن برز اسم مالك لها يتخفى وراء ستار شركة «اوفشور»، وقصص أشخاص من الفيفا... والتقينا شركاءنا في المجمع الدولي للصحافيين الاستقصائيين، واطلعوا على الوثائق. وهالهم ما رأوا وبدأوا يبحثون في المعطيات ويسلطون الضوء على عوامل جديدة. ولا يتعلم المرء من التعاون الدولي مشاركة المعطيات فحسب، بل يتشارك مع فريق العمل اكتشاف مسائل صغيرة. فالوثائق هي في مثابة لغز أو قطع أحجية غامضة. ففي لغز أصدقاء بوتين، لم نتبين مدى هذه المسألة وأهميتها إلا من طريق التعاون ومشاركة المعلومات. ففي لندن، التقينا بزملاء يعملون على ملف روسيا. وكان بينهم الزميل رومان أنن الذي سبق له أن تحرى عن دائرة المقربين من الرئيس الروسي، وأعلمنا أن عنصراً راجحاً ساهم في فك أحجية قضيته برز حين تحريه عن مالك مقر حفل ابنة بوتين. ومثل هذا التفكير (في هوية مالك المقر) كان خافياً علينا. ولجأنا الى تشفير الاتصالات بين المخبر وفريق العمل، واستخدمنا حواسيب غير متصلة بالانترنت، كما فعلنا حين انكبابنا على وثائق إدوارد سنودن. ولكن لم يسبق أن جبهنا مسألة ضخمة ومتشعبة وعلى هذا القدر من الأهمية. واقتصر عدد الذين في مقدورهم دخول الغرفة التي أودعت فيها الوثائق على خمسة أشخاص. واضطررنا الى «تصفيد» الكمبيوتر أي ربطه بسلسلة معدنية وطلاء براغيه بطلاء الأظافر اللميع. وأكثر القصص التي استقطبت انتباهنا وشدته اليها هي قضية إيسلندا. ولم يخف أن هذا البلد انزلق الى الإفلاس وأعلن السياسيون ورجال الأعمال والمصرفيون انهم استخلصوا العبر من أخطائهم. و(إثر نشر الوثائق) اضطر رئيس الوزراء سيغموندور ديفيد غنلوغسون الى الاستقالة على رغم أنه انتخب على أنه «رجل التغيير». فهو يملك وزوجته شركة «مخفية». وأعصى المسائل على التقصي كانت مسألة دائرة المقربين من بوتين: ملايين من الوثائق والعقود المعقدة. ولكن العمل مع زملاء بريطانيين وروس وسويسريين واميركيين كان فرصة لفك هذه الأحاجي. ولم تلق أكثر المسائل أهمية في الوثائق، مثل قضية غينيا، غير صدى خافتٍ في ألمانيا. وكنا لنرحب بنشر الوثائق، ولكن ما يحول دون النشر هو احتواؤها على كم هائل من المعلومات الشخصية. ولا نرغب في إلحاق الأذى بأشخاص لم يرتكبوا جريمة ولا جنحة. والحق في حماية الحياة خاصة هو حق ثابت في ألمانيا. وحري بنا حماية سرية المخبر، وقد يؤدي نشر الوثائق الى اقتفاء أثره وإماطة اللثام عن هويته. ونشرنا عشرات من الوثائق، وكان قرار انتخاب وثائق دون غيرها عسيراً. وثمة أزمة ثقة بين القارئ ووسائل الإعلام، ونشر الوثائق يطمئن القارئ الى انه قادر على استنتاج الرأي واستخلاصه مباشرة وفي منأى من الصحافي. وتخففنا من مخاوف اقتصاص «المفضوح أمرهم» منا من طريق التفكير المنطقي. فلا فائدة ترتجى من الانتقام. وثمة كثر ينظرون بعين الاستياء الى عملنا في هنغاريا وروسيا وانغولا. ولكن من يغامر فعلاً ويخاطر بحياته هم الزملاء المقيمون في هذه الدول. ولا يسعنا الإفصاح عن حال علاقتنا بالمخبر «جون دو»، وهو اسم مستعار. فحظوظ تعرضنا للمراقبة كبيرة، ولا نرغب في التفريط بمعلومات. ونشر «جون دو» بياناً في ختام الكتاب الذي نشرناه بعنوان «أكثر الأسرار المحفوظة في العالم». والبيان هو مرآة تفكير مستفيض في عالم التهرب الضريبي والمالي ما وراء الحدود. فعين «جون دو» على عالم السياسة وعلى دور المحامين في التهرب الضريبي. فموساك فونسيكا هي مكتب محاماة. وكنا نحسب أن المحامين يستندون الى الأخلاق، ولكن الوثائق تظهر أننا كنا سذجاً. فمكتب موساك فونسيكا واصل العمل مع رامي مخلوف، قريب الرئيس بشار الاسد، على رغم العقوبات الاميركية عليه. ومثل هذا الدور يدحض ما يقال حين الدفاع عن شركات «الاوفشور» والزعم بأنها لا تنتهك القوانين. وإثر نشر الكتاب، قبلت بنما من تلقاء نفسها الكشف عن معلومات مالية. وبرزت دعوات الى تشريعات مالية جديدة من باراك اوباما الى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مروراً بالمشرعين الألمان. واليوم، تدور عجلة نقاش دولي حول الجنات الضريبية والمالية، ويشعر المسؤولون بـ «ضغط» يحملهم على تغيير واقع الحال وعدم التسامح مع الجنات الضريبية. ولكن امثال الرئيس الروسي لا يأبهون بالضغط الدولي. فبوتين يزعم ان صديقه رولدوغين ينفق أمواله على شراء آلات موسيقية. ويبدو ان هذه المعدات الموسيقية خيالية الثمن. فثمة بليونا دولار في شركات رولدوغين الاوفشور. ودعا الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، الى حماية «قارعي الناقوس» (من يفشي بأسرار تسلط الضوء على انتهاك القوانين والحق في الخصوصية ...). ولكن كلامه حبر على وقت. فهو لم يحرك ساكناً لحماية أنطوان دلتور (كان وراء «لوكس ليكس») الملاحق امام القضاء في لوكسمبوغ. وشلسي مانينغ في السجن، وإدوارد سنودن لا يستطيع مغادرة موسكو. * صحافيان في «زودويتشه تسايتونغ»، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 16/6/2016، إعداد منال نحاس.
مشاركة :