جاءت ردة فعل الأسواق العالمية على الاستفتاء البريطاني عنيفة جداً. ومع غياب فاعلية المؤسسات وتخبطها في مواجهة النمو الاقتصادي العالمي الضعيف وبرامج التيسير الكمي المجهولة النتائج، جاءت نتيجة الانفصال البريطاني خليطاً من التذبذب في معدلات صرف العملات العالمية، وموجات هروب من الأسهم إلى الملاذات الآمنة من السندات الحكومية والذهب. وما سيواجهه المستثمرون مستقبلاً ينبغي ألا يكون أكثر قبحاً إذا افترضنا أن الأسواق نجحت في تخطي مشكلة مزدوجة قوامها التدخل الحكومي والأزمات المالية الطارئة. وتمثل الأثر الفوري للانفصال في ترنح شديد للأسواق على خلفية عوامل تقنية بحتة. ومن أبرز تلك العوامل التهافت على النقد وسط إهمال لهامش الربح، ما حرض على موجات بيع خاصة في الاستثمارات طويلة الأجل الأمر الذي شكل مصدر ارتياح في ظل المخاوف المتصاعدة من انتشار الفوضى. لكن في مرحلة لاحقة ستكون دفة القيادة في يد الشركات وأساسيات الاقتصاد إضافة إلى العنصر السياسي. وقد بدد انفصال بريطانيا الصورة المشرقة لأرباح الشركات بسبب النمو الضعيف في الاقتصاد البريطاني والأوروبي عامة، وبسبب تصاعد مخاوف الركود. وسوف تلجأ الشركات الباحثة عن إجابات لعدد من الأسئلة السياسية، إلى تأجيل قرارات الاستثمار، خاصة تلك الشركات التي تعتمد في عائداتها على حرية تنقل الأموال والبضائع والخدمات بين بريطانيا والقارة الأوروبية.أما البنوك فسوف تضطر للاستغناء عن الموظفين. وفي ظل التساؤلات حول مصير المهاجرين وسياسات الهجرة، قد تتعرض ثقة المستهلكين للاهتزاز. وهناك تبعات على الصعيد السياسي حيث تخلق استقالة ديفيد كاميرون فرصة لاحتدام الخلاف داخل حزب المحافظين، ولن يكون هذا توقيتاً مناسباً للتفاوض حول إجراءات الانفصال مع الشركاء الأوروبيين الغاضبين الذين يظهر عليهم عدم الاستعداد للانتظار في الوقت الراهن على الأقل. كما قد تتسع دائرة الاضطراب لتشمل الداخل البريطاني وتهدد وحدة البلاد، خاصة في ظل دعوات أسكتلندا للتصويت على الانفصال عن بريطانيا والاحتفاظ بعضوية الاتحاد الأوروبي. وتتضافر كل تلك العوامل لتزيد صورة الاضطراب قتامة فيما يخص المخاطر على الأصول. إلا أنها بأي حال من الأحوال لن تبلغ درجة مخاطر أزمة انهيار بنك ليمان براذرز عام 2008. والمهم هنا أن نظام المقاصة والتسوية ليس داخل اللعبة، ولهذا لا يوجد أدنى احتمال لتعطل مفاجئ يصيب الاقتصاد العالمي. كما أن هناك اليوم بيئة ممتازة للمستثمرين المتخمين بالسيولة فضلاً عن شهية جامحة للاستفادة من تذبذب الأسواق. ومع الزمن سوف تتشكل فرصة جيدة للسندات التي تصدرها الشركات والحكومات التي تتمتع بميزان ختامي سليم أو قوي وتدفقات نقدية وفيرة وإدارات راسخة. وسوف تستقر احتمالات الجاذبية الخاصة في السندات التي حلق العائد عليها بسبب ما يجري إما لنقص الطلب من المستثمرين، أو لأن أجل الاحتفاظ بها طال لتتحول إلى أوعية سهلة التسييل عند الحاجة. وعلى الرغم من وجاهة هذه المقدمات والمعطيات، فإن السؤال الأهم الذي يطرحه انفصال بريطانيا يتركز حول أمر آخر. ولعل أفضل طريقة للتفكير بما جرى هي تصويره بتلة من الرمال يمكن بسهولة تثبيتها في وجه حركة الرياح بنثر حبات القمح فوقها. وقد ارتاح المستثمرون لفترة من الزمن لفكرة استعداد البنوك المركزية وقدرتها على وقايتهم بشكل دائم من الآثار المثبطة التي تفرزها التطورات الاقتصادية والسياسية. إلا أن البنوك المركزية تحمل عبئاً ثقيلاً بعد تصديها لمشاكل الاقتصاد بالانخراط في سياسات تحفيز أكثر عمقاً بلغت حد اعتماد معدلات أسعار فائدة سلبية. وقد نتج عن ذلك فقدانها المرونة المعتادة ووضع مصداقيتها وفاعليتها على المحك. والحقيقة أن قليلاً من الأدوات التي بيد البنوك المركزية باتت مناسبة للتعامل مع مفرزات الانفصال البريطاني وتعقيداته. وسوف تواجه الأسواق المزيد من المعوقات التي تفرزها القرارات السياسية الخاطئة أو أزمات الأسواق الطارئة.
مشاركة :