بينما أمضي إجازتي السنوية في لندن هذه الأيام، تسنت لي فرصة معايشة لصيقة لتداعيات انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، والتعرف عن كثب على دوافع وتوجهات العديد من الناس هنا، وكيف سارت الأمور إلى أن وصلت إلى ما آلت إليه. كنت كتبت مقالاً سابقًا حول ضرورة حماية الديمقراطية من نفسها، والسؤال الكبير الذي لا زال يراودني هو: ما الذي يحدث عندما تسفر انتخابات حرة ونزيهة عن اختيار غالبية الناس التصويت لصالح أمر يبدو بوضوح أنه ضد مصالحهم العليا؟ لقد قالها ابن رشد قبل تسعة قرون كاملة: السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وقالها المؤرخ الإنجليزي المشهور اللورد آكتون: السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ومع تأييدي لهذا القول، لكن اسمحوا لي أن أضيف عليه إن: الديمقراطية المطلقة مفسدة مطلقة أيضا. أمضى اقتصاديون وسياسيون وأكاديميون ورجال أعمال الشهر الفائت فيما هم يحذرون الشعب البريطاني من العواقب الكارثية لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ورغم ذلك اختار أكثر من نصف البريطانيون الانفصال! تحققت العديد من أسوأ التوقعات على الفور: انخفضت قيمة الجنيه الاسترليني، وارتفعت دعوات الانفصال عن بريطانيا من قبل الاسكتلنديين المؤيدين لأوروبا، فيما حذر دبلوماسيون من أن المملكة المتحدة، العضو دائم في مجلس الأمن الدولي، قد اختارت طوعًا إضعاف حضورها على الساحة العالمية. لماذا يمكن للناس العقلاء أن يصوتوا للانفصال؟ هناك نسبة واسعة من الإنكليز لديهم شكوك غريزة إزاء الاتحاد الأوربي وجرى إغراؤهم بأن بريطانيا ستكون أقوى بلا أوروبا، ومع ذلك، يمكن القول إن نسبة مرتفعة من بين الذين صوتوا للانفصال كان قرارهم مجرد تعبير عن الاحتجاج على أداء الطبقة السياسية. انطلاقًا من زاوية التفكير هذه يمكننا إجراء مقارنة مع الصعود الغريب لنجم دونالد ترامب: لماذا تصوت غالبية الجمهوريين لصالح شخص لا يعرف بوضوح شيئًا عن السياسة، مع إظهاره كراهية مقيتة للأجانب، واعتاد قول كل ما يخطر في باله دون تفكير، ويغير مواقفه بين اليوم والآخر؟ نشهد في جميع أنحاء أوروبا صعودًا مزعجًا للسياسيين من اليمين المتطرف والفاشي الذي كان ينظر إليه حتى قبل بضع سنوات على أنه جماعات متطرفة، والآن هناك مخاوف من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيفتح المجال لمزيد من الزخم أمام القوى المحلية والقوميين المتشددين. هل نحن في طريقنا لدخول المرحلة النهائية للاتحاد الأوروبي الذي عانى الكثير من الأزمات في السنوات الأخيرة، مع دول الجنوب الغارقة في أزمة ديون مثل اليونان، وقضية اللاجئين السوريين التي يجري استغلالها من قبل المعادين للمشروع الأوروبي؟ هناك شيء مغرٍ في خطاب كل أولئك المتطرفين، وموقفهم دائما واضح جدا: إذا منحتنا صوتك وفزنا فسنعمل على تأمين حدودنا، وسنتخلص من كل الجماعات غير مرغوب فيها مثل الأقليات الدينية والإثنية، وسنجعل أمتنا أقوى، وهم يقدمون دائما ووعودًا بتقديم حلول خارقة لجميع المشاكل بنسب انجاز خيالية، مقارنة مع ما يقدمه السياسيون المحترفون من وعود بأن ينمو الاقتصاد بنسبة 2.35٪، وزيادة فرص العمل بنسبة 1.62٪، والحد من الهجرة إلى 4.73٪ مثلاً. مع الاحترام للإنسان كإنسان، وعدم التشكيك حق المواطنة والمساواة للجميع، لكن إلى أي حد يجب أن نعتقد أن الأميين وأصحاب السوابق وغير المبالين بالحياة يمكنهم رسم مستقبلنا السياسي والاقتصادي؟ عندما نحتاج إلى التعامل مع قضية قانونية، أو دراسة جدوى، أو إنشاء بناء، فإننا ندفع للخبراء في تلك المجالات، فلماذا لا نفعل نفس الشيء مع القضايا الأكثر تعقيدًا في تحديد مستقبلنا؟ كل تجارب الاستفتاء تقريبًا حول العالم تعلمنا أن الناخبين يبنون قرارهم ليس على أساس مصالحهم العليا ولكن اعتمادًا على مستويات الرضا والثقة في الطبقات السياسية، وبالتالي يصبح الاستفتاء تصويتًا على الثقة أو تصويتًا احتجاجيًا، دون الأخذ بالاعتبار العواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب عليه. الكثير من الناس يؤمنون بالديمقراطية المطلقة، ويعرفونها على أنها حكم الشعب للشعب، لكن كثيرًا من الحالات يتطلب وجود قيادات نخبوية قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة بناء على حسها الوطني والمعلومات التي لديها ورؤيتها الثاقبة للأمور. صعود ترامب، والاضطرابات في الاتحاد الأوروبي، وصعود المتطرفين من كل الألوان، يظهر أن الإجماع الليبرالي الذي هيمن على السياسة في الغرب والكثير من دول العالم على مدى السنوات السعبين الماضية على الأقل بات الآن تحت التهديد، وإنقاذه يتطلب استجابات منسقة على أعلى المستويات. لقد عملت البحرين على اتخاذ تدابير لمنع رجال الدين من المشاركة في الحياة السياسية واستبعاد الجمعيات السياسية الطائفية، وفي الواقع هذا يمثل حماية العملية الديمقراطية من الجماعات ذات الأجندة والإيديولوجيا المعادية للديمقراطية. وفي بداية المشروع الإصلاحي لجلالة الملك حمد كانت هناك انتقادات من قبل تلك الجماعات لإنشاء برلمان من مجلسين واصفين هذه الخطوة بأنها غير ديمقراطية، لكن الوقائع اللاحقة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن وجود غرفة البرلمان الثانية وفر حماية واستدامة للتجربة الديمقراطية في البحرين من خلال إعادة التدقيق في التشريعات وضمان أن القوانين الجديدة تتواءم مع الدستور والقيم الديمقراطية، وهذا منع اختطاف البرلمان من قبل أي أجندة أيديولوجية باستخدام صناديق الاقتراع لتقويض الديمقراطية، وضمن استقرار البحرين تحت مظلة ملكية دستورية تنظمها مجموعة من الضوابط والتوازنات للحد من القوى الطائفية وحماية العملية الديمقراطية. يمكننا أن نكون في غاية الامتنان للجهود المتسقة لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد في قيادة جلالته عملية الإصلاح إلى الأمام، وضمان أن أولئك الذين يكرهون الديمقراطية ويسعون لتقويضها لن يتمكنوا من الحصول على موطئ قدم داخل العملية السياسية. * رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسيفن القابضة
مشاركة :