من غير اللائق بدول الخليج أن تُبقي قضية البدون معلقة بهذا الشكل، ولا بد من التعجيل في حسمها ولو على مراحل، كأن يُبدأ بحلول طارئة، تُوفَر فيها الاحتياجات الأساسية لهم أعرف أن الحديث عن البدون ممل ومعاد وجالِب للسأم والكآبة، ولن يكون بمقدوري الإتيان بجديد عن أشياء قلتها في السابق أو قالها غيري، لكني مضطر للكتابة عن هذا الموضوع تحديداً لسببين، أولهما: أنه إنساني بالدرجة الأولى ويحتاج إلى التذكير به من وقت إلى آخر، حتى لو زعم المُحبَطون أني كمن يصرخ في واد أو ينفخ في رماد، فأنا أؤمن أن كل يوم تطلع فيه الشمس على هذه الفئة فإنه يحمل معه قصصاً غريبة وآلاماً جديدة، ثم إنه ليس هناك إنسان بلا وطن، وحيث تكون طفولتك وذكرياتك وآمالك وأحلامك ومقابر أهلك وأصدقاؤك يكون وطنك، وثانيهما: أني واجهت أحد الإخوة البدون، وكنت قد حضرت حفل زفافه الجماعي مع اثنين من إخوته قبل عام تقريباً، ولم أنسه بسبب أن زواج الإخوة الثلاث حدث بطريقة غريبة لم أر مثلها في حياتي، حيث تم بوجود ثلاثة (معاريس) و(عروس) واحدة فقط، بسبب أن اثنتين من الزوجات من بدون الكويت، في حين أن الأزواج من بدون السعودية، وتعذر إدخال الزوجتين إلى السعودية لعدم إمكانية حصولهما على تأشيرة، بسبب أن توقيت الزواج كان قبل رمضان، وهو موعد يتزامن في العادة مع وقف تأشيرة الدخول للراغبين في أداء العمرة من البدون، كما أنه لن يكون باستطاعتهم زيارة السعودية إلا بدعوة قريب من الدرجة الأولى!، المضحك المبكي في هذه القضية أن أخاهما الثالث رُزِق بمولود، في حين أنهما في بلدٍ وزوجتيهما في بلدٍ آخر حتى كتابة هذه السطور!. أشرت إلى هذه الحادثة في وقت سابق، ولم أكن أتوقع أن أعود للكتابة عنها مرة أخرى، بسبب أن قضية البدون عموماً أبسط من كل هذا التعقيد، ولكونها من النوع الطارئ الذي لا يحتمل التأجيل ولا التسويف لأسباب إنسانية وأمنية، كما أن وطناً كريماً استوعب أكثر من 2.5 مليون مواطن سوري، وعمل على تصحيح أوضاع نصف هذا العدد من الإخوة اليمنيين، لن يضيق ببضعة آلاف من أبناء القبائل؛ ممن نعرف جميعاً أن ولاءهم لهذا البلد أكبر من أي بلد آخر، كما أن السواد الأعظم منهم ليس لديه جنسية على الإطلاق، بل أجزم أن أقدام كثيرين منهم لم تطأ أرضاً أخرى غير الكويت والسعودية. وما يؤسَف له حقاً أني بعد ستة أشهر أعود للكتابة عن هذه الحادثة من جديد، بعد أن مر عليها أكثر من عام كامل وهي تراوح في ذات المكان، مع العلم أني لم أقصد بكتابة هذا المقال تلك القضية على وجه التحديد، إنما أتيت بها لتصوير حجم المأساة التي تمر بها هذه الفئة من البشر، ممن شارَكَنا بعضهم مرحلة الطفولة والكبر، وهو يشبهنا ونشبهه، ولا يختلف عنا في شيء سوى أنه بلا هوية. أعتقد أن من غير اللائق بدول الخليج أن تُبقي قضية البدون معلقة بهذا الشكل، ولا بد من التعجيل في حسمها ولو على مراحل، كأن يُبدأ أولاً بحلول طارئة، تُوفَر فيها الاحتياجات الأساسية لهم، من تعليم وصحة وهوية رسمية تمكنهم من التوظيف والتنقل بين دول مجلس التعاون الخليجي على الأقل، إضافة إلى توثيق أحوالهم الشخصية عند التملك والولادة والزواج والوفاة، ثم يتم الانتقال إلى المرحلة الثانية وفيها تُفتَح لهم ملفات أمنية يحصلون بموجبها على نقاط محددة بناء على معايير واضحة يتم تحديدها، من يصل إليها يكون مستحقاً للجنسية السعودية، كأن يثبتوا انتماءهم أو حلفهم لأي قبيلة سعودية، حتى لو لم يكن لديهم صلة قرابة من الدرجة الأولى، ومثل أن تخلو ملفاتهم من أي سوابق أمنية، إضافة إلى غيرها من المعايير التي تقترحها لجنة مكلفة بدراسة هذه القضية، وما يجدر ذكره أن بعضاً من الإخوة البدون حين أحسُّوا بضياع أعمارهم وقتل طموحهم وتقييد حركتهم أخذوا تحت تأثير هذه الضغوط بتعريف عبدالرحمن منيف للوطن حين قال: (وطن الإنسان حيث يكون قوياً ومؤثراً وقادراً، الوطن ليس التراب أو المكان الذي يولد فيه الإنسان، وإنما المكان الذي يستطيع فيه أن يتحرك)، فقرروا الهجرة إلى الخارج وحصلوا على جنسيات مختلفة، لكنهم وجدوا كل شيء هناك إلا الوطن، وعرفوا أن الوطن هو الطفولة والمدرسة والذكريات والشوارع والأزقة الضيقة والحبيب الأول، ومن إذا خطرت ذكراه على البال سقطت دمعة، الوطن باختصار هو من قال فيه نزار قباني: تلك الزواريب كم كنز طمرت بها وكم تركت عليها ذكريات صبا وكم رسمت على جدرانها صوراً وكم كسرت على أدراجها لعبا أتيت من رحم الأحزان يا وطني أقبل الأرض والأبواب والشهبا حبي هنا .. وحبيباتي ولدن هنا فمن يعيد لي العمر الذي ذهبَ؟.
مشاركة :