الذين يضفون على عالم معين صفة "التنوير" يَغفلون عن أن التنوير لا يكون بمَرْكَزة شخص مهما بلغ علمه، وتنصيبه في موضع الحق والحقيقة الذين يحبون الدكتور عدنان إبراهيم، ويعجبون بفكره الديني، يصفونه بـ"التنويري". وهي صفة لا تعبر فحسب، عن مديحهم له، ولا عما يتميز به من وجهتهم، وإنما عن تفكيرهم، وطبيعة وعيهم، وما يتطلعون إليه. والذين يناقضونهم في الموقف منه، ينازعونهم في تلك الصفة، ويستبدلون بها صفات قَدْحية لا تعبِّر فحسب، عن انتقاصهم له، ولا عن عيوب فكره من وجهتهم، وإنما عن تفكيرهم، وطبيعة وعيهم، وما يتطلعون إليه. ولذلك يصبح الفحص للتضاد والتناقض بين الموقفين، نافذة لمعاينة نسقين يتغالبان، ويندرج الدكتور عدنان في الدلالة على أحدهما، وتلبية لحاجته. ويتشكَّل -من ثم- ويَسْطع تبعاً للعلاقة الجاذبة بينه وبين جمهوره، وللعلاقة النافرة بينه وبين خصومه. وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن تشكُّل الداعية بهذه الكيفية التي تنسبه إلى التنوير وتجعله حاجة دينية وثقافية ملحَّة لدى جمهوره، وترميه بالضلالة لدى خصومه: بأي معنى يكون التنوير؟ وكيف تشكَّل عدنان إبراهيم لهذه المهمة؟ لقد بدأ صعود عدنان إبراهيم بعد أن عرف العالم العديد من العمليات الإرهابية التي اقترفتها جماعات تنتسب إلى الإسلام. وهو صعود تعزَّز، أكثر ما تعزَّز، في ظهوره في برامج تلفزيونية فضائية، بعد استفحال الإرهاب بظهور "داعش" عام 2011، في المسافة التي لا تنفصل عن ظهور غيره من الجماعات الإرهابية المنتسبة للإسلام في الصومال ونيجيريا وأفغانستان وغيرها، ولا تنفك عن استفحال الفكر الديني الشديد التزمت تجاه المرأة وغير المسلم والفنون.. إلخ بل شديد السطوة والعنف تجاه المختلف معه من الفقهاء والعلماء المسلمين. وهو الفكر الذي يراكم منذ عقود، وبشكل متصاعد الوتيرة، مقولاته ومناشطه في التحوط تجاه المخترعات والعلوم الحديثة، والأنظمة الحكومية، وفتح سجلات التصنيف والقولبة التي لا تبقي أحدا خارج فصيله إلا وهو يحمل وسما من وسوم التضليل والتبديع والإلغاء؛ فهو ليبرالي أو تغريبي أو علماني أو جامي... وهلم جرا. هذا هو الفضاء الثقافي الاجتماعي الذي اقتضى الحاجة إلى عدنان إبراهيم، ودفع إلى صعوده، خصوصا وإقامته في أوروبا "وهو يحمل الجنسية النمساوية" ترفع عنه الكلفة والحرج والضغوط والمحاصرة الاجتماعية. ولهذا تميز خطابه بسمات متجاوبة في جملتها وتفاصيلها مع ذلك الفضاء؛ فكان يستشعر تخلف المسلمين، ويكرر الألم له، مقرونا بالإعجاب بما وصلت إليه الحضارة الغربية من ثراء وعلم وإدارة وتقنية وسلْم واحترام للإنسان. ولا ينفصل ذلك عن إلقائه اللوم على الفقهاء والوعاظ المتشددين والجماعات الحزبية الإسلامية؛ فذلك –من وجهته- جزء جوهري من سبب تأزم أوضاع المسلمين وصدامهم مع العالم وتفاقم التطرف. وإلى ذلك، فإن سمة أساسية في خطاب عدنان إبراهيم تبرز في دلالته على استيعاب الاختلافات الفقهية، والأدلة، والقدرة على الموازنة والتأويل والحجاج، والبرهنة على أفق فلسفي وثقافي واسع. وهي سمة تتصل بتناوله العديد من المسائل الفقهية ذات الحضور الجدلي في الساحة الإسلامية والسعودية خاصة، والمحصورة في رأي واحد متشدد "مثل: غطاء وجه المرأة وعملها وقيادتها السيارة، والموسيقى، وحرية الاعتقاد، وصلاة الجماعة، وتلبُّس الجن للإنس، والتحزب السياسي باسم الدين... الخ" وإعادتها إلى الاختلاف، واختياره –وفق استدلال فقهي دقيق- مواقف تجاهها، أكثر ميلا إلى الحرية، وتأكيدا على الفردية والعقلانية والانفتاح على المختلف والتسامح، وصيانة الدين عن أدران السياسة. هكذا تصبح نسبة عدنان إبراهيم إلى "التنوير" دلالة معارَضَة لدى جمهوره للتشدد، وتجاوبا مع تشخيصه للتخلف ونقمته عليه. وإذا عرفنا أن هذه الدلالة أكثر اتساعا لدى عديد الباحثين والمؤلفين النهضويين، وأنه لا يكاد ينفرد عن غيره بجديد، حتى في مواقف السعة تجاه المسائل الفقهية المشار إليها، فسنلتفت إلى شخصية "الواعظ الديني" لديه، التي تسلب العقلانية هالتها وإدهاشها وفتنتها الجماهيرية. وهذا جانب يفسِّر رواية الدكتور عدنان للكرامات التي أجراها الله على يديه، وتأكيده –فيما قال في أحد لقاءاته التلفزيونية- "أنها بالآلاف بحمد الله". كما يفسِّر غرامه برواية كرامات الأولياء والصالحين، ومنها حديثه المحفوف بدهشة طفولية وإعجاب سابغ، المتداول تسجيله على نطاق واسع، عن جلوس الشيخ عبدالقادر الجيلاني في الهواء محاضرا طلابه الذين يبلغون مئة ألف... وغيرها. وهذه ممارسة واعية أو غير واعية لمَرْكَزة الذات وترميزها للصلاح "كان بوسعه أن يترك كما ترك الجيلاني للآخرين الحديث عن كراماته!". ومن شأن ذلك أن يناقض في الدكتور عدنان شخصية التنويري، ويعمل على الضد منها. وهذا يقودنا إلى ضرورة الفصل بين "التنوير" وبين مَرْكَزَته في ذات، بأي شكل كانت هذه المَرْكَزة، وبأي صفة بشرية كانت هذه الذات. إن الذين يضفون على عالم معين صفة "التنوير" يَغْفَلون عن أن التنوير لا يكون بمَرْكَزة شخص مهما بلغ علمه، وتنصيبه في موضع الحق والحقيقة، بحيث يُعْرَف الحق به، وتنتفي المسافة بين "الحق" وبينه. فمثل هذه المَرْكَزة للذوات ممارسة ضد التنوير الذي يعني في أخص ما يعنيه بث حس المسؤولية العقلية الذاتية في التربية والثقافة، وغرسها وإشاعتها في العموم، حتى لا يكون فرد بصفة عالم أو مؤسسة بأي صفة إيديولوجية، أكثر مسؤولية من مسؤولية الشخص نفسه عن مواقفه واختياراته وعن تفكيره. والحديث النبوي "استفت قلبك واستفت نفسك... وإن أفتاك الناس وأفتوك" (رواه أحمد) هو دلالة هذه المسؤولية الذاتية التي تفرض على الإنسان استخدام عقله وفكره "وليس مجرد إحساسه النفسي"، وتنهاه عن أن يلقي بمسؤوليته على غيره، فيغدو في جهله وتواكليته واتباعيته مثل الأعمى. وسواء كانت هذه المَرْكَزة للذات العالمة، التي تأخذ صفة الترميز لشخصه والاستدارة عليه، من إنتاج الأتباع أو بالتضافر مع حس الذات بذاتيتها التي لا تبرأ من شهوة التملك والفخر والقوة ما دامت بصفة البشر وفي واقعهم، فإن الموقف التنويري الجدير بهذه الصفة هو الموقف الذي يرسِّخ معاني مضادة للتعصب والتقليد والعمى العقلي. ويكفي ما نقرأه في تراثنا الفقهي –مثلا- من توتُّر بين الاتجاهات الفقهية ورموزها بلغ عنف التكفير والطعن في بعضهم بعضا، واستعداء العامة، كما في كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، و"الانتقاء" لابن عبدالبر، و"المنتظم" لابن الجوزي، وتاريخ ابن كثير. إن المشكلة الحقيقية في الواقع الإسلامي هي مشكلة التعصب والتقليد، ولذلك تغدو المقولة المنسوبة إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "الحق لا يعرف بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله" عنوانا تنويريا بالغ الإشعاع في تراثنا، لأنها تَفْصل الحقيقة عن التملُّك بأي معنى، وتحرر منطق العلم من التعصب والتقليد.
مشاركة :