لأسباب عدّة ليس كلها مباشراً، تحضّر الصور التي لم تعد تتوقف عن مأساة اللاجئين العرب في أوروبا، عند قراءة كتاب الباحث اللبناني - الفرنسي حسين منصور «الدماغ: هذا المجهول- تكوينه، احتياجاته، حمايته»، الصادر في طبعة أولى عن دار «منتدى المعرفة» في بيروت - 2016. وإذ يساهم الكتاب بصورة غير مباشرة في نشر الوعي بأساليب للوقاية من مرض «آلزهايمر»، يحضر إلى الذهن بسرعة أن «القارة العجوز» التي يتدفق اللاجئون إليها، يعاني سكانها ظاهرة التشيّخ (بمعنى ارتفاع معدلات تفوق أعمارهم الـ65 سنة)، مع ارتفاع كبير في أعداد المُصابين بالـ «آلزهايمر» فيها. وإذ يخرج المصاب بالـ «آلزهايمر» من صفوف من يقدرون على العمل والانتاج من جهة، كما يضحي بحاجة رعاية متعددة الأوجه من الجهة الثانية. وبذا، تصبح المجتمعات بحاجة إلى أيدٍ قادرة على العمل والرعاية سويّة. ويمثّل ذلك جزءاً من حاجة تلك المجتمعات المتشيّخة إلى المهاجرين، وهي حاجة برزت تكراراً أثناء النقاشات الأوروبيّة الصاخبة عن ذلك الموضوع، خصوصاً في ألمانيا التي أوضحت مستشارتها أنغيلا مركل أن بلادها تحتاج سنويّاً مئات ألوف الأيدي الوافدة من الخارج. وكذلك تشكّل تلك الحاجة عينها جزءاً من ظاهرة «المهاجر الاقتصادي»، في إشارة إلى الذين يأتون إلى أوروبا وفي أذهانهم أن بلدانها تحتاج أيديهم وقوّة عملهم وطاقة أدمغتهم. وربما لا يبدو غريباً أن يكثّف البعض الأمر عبر معادلة لا تخلو من الغرابة: «آلزهايمر» في أوروبا = المهاجر الاقتصادي إلى «القارة العجوز»! إذا صحّت تلك المعادلة المختزلة ولو بصورة جزئيّة، يكون كتاب «الدماغ...» ظهر على إيقاع اللحظة المعاصرة في العلاقة المعقّدة بين آليات المجتمعات في الغرب، وانهيارات الدول الفاشلة في العالم الثالث، خصوصاً في العالم العربي. لنأكل بذكاء أو... للذكاء! يصعب الانتهاء من الكلام عن العلاقة بين كتاب «الدماغ...» والهجرة إلى الغرب، من دون الإشارة إلى نوع من لعبة مرايا خفيّة فيه: أليس الكاتب منصور نفسه هو (بمعنى ما) «مهاجر علمي» أيضاً؟ يضمّن منصور كتابه شروحات عميقة عن تركيبة الدماغ وتفاصيلها وعلاقتها مع طريقة عمل الدماغ، مع تركيزه على أن الذكاء والتفكير هما العمل الأساسي المميّز لدماغ الإنسان. ومثلاً، يتحدّث عن «الخلايا الداعمة» وهي نوع من الخلايا العصبيّة التي لا تؤدي دوراً مباشراً في أعمال الدماغ (إدارة الجسم ووظائفه، التفكير، الذاكرة...)، لكنها تؤدّي دور «الجسر بين الخلايا العصبيّة والشرايين المغذيّة له». ويلفت إلى أن تلك الخلايا الداعمة صارت بؤرة لبحوث حديثة رصد أنها تفرز مواد «تقاوم الشيخوخة المبكرة للدماغ»، مشيراً إلى أن تشريح دماغ آينشتاين بيّن أنه يحتوي عدداً هائلاً من الخلايا الداعمة». ويربط منصور بين أنواع من الأطعمة، والمواد الكيماويّة التي تؤدي دوراً محوريّاً في الوظائف العليا للدماغ البشري، خصوصاً الذكاء والذاكرة. إذ يساعد البيض والسمك والدهن النباتي، على التعلّم وتخزين المعلومات. وتساهم الدواجن والأسماك والحليب والقمح الرز، في النوم الصحي والقدرة على الصبر والهدوء. ويساند الخبز والبيض والـ «تونا» والفستق واللوز والدجاج، الميل إلى الاكتشاف وسبر غور الأشياء. ويساهم استهلاك اللوز في الهدوء النفسي. ويتألّق الجوز في تجديد خلايا الدماغ والحفاظ على نضارتها وشبابها، كما يقوّي الذاكرة ويحفز الأشكال المتنوّعة لنشاط الدماغ ككل. وتساعد البندورة على منع الترسّبات داخل الخلايا العصبيّة (مع العلم بأن تلك الترسّبات هي أساس تكوّن مرض «آلزهايمر»). وتحفز البهارات بأنواعها نشاط الدماغ، إضافة إلى أنها تبث شعوراً بالاسترخاء نفسيّاً وجسدياً. ويملك البيض دوراً محوريّاً في تشكيل أغلفة الخلايا العصبيّة التي تعين على استقرار عملها وانتظام إشاراتها، إضافة إلى احتوائه مواد تدعم القدرة على التركيز والاستيعاب والتذكّر. وتساهم المأكولات التي تحتوي «أوميغا 3»، كالزيتون وزيته، في نقل المعلومات بين المراكز المفكّرة في الدماغ، ما يساند القدرة على التركيز ومقاومة القلق. وعلى ذلك النحو تمضي صفحات كتاب «الدماغ...»، ما يجعلها مرجعاً مهمّاً للراغبين في الحصول على أساس علمي لنظامهم اليومي في الأكل، خصوصاً من يريد أن يكون غذائه معيناً لدماغه على مقاومة الشيخوخة والخرف والتلف وأمراض كـ «باركنسون» و «آلزهايمر»، إضافة إلى تحسين مزاجه واستقراره النفسي. ويذكر أن منصور يحمل درجة دكتواره في جراحة الأعصاب، وما زال منخرطاً في بحوث عن الدماغ لمرحلة ما بعد الدكتوراه. وفي العام 2011، صدر له في بيروت عن «دار منتدى المعارف» أيضاً، كتاب عنوانه «آلام الظهر والرقبة - الأسباب، الوقاية، والعلاج». لنفهم دماغنا أولاً بين الجينات والمرونة
مشاركة :