الشارقة: محمد ولد محمد سالم ألقى ملتقى رمضان لخط القرآن في دورته لهذا العام الضوء على إمكانية إحياء الأنواع المندثرة من الخط العربي، والاستفادة منها في راهن الحركة الخطية العربية، بما يقدم دعما لهذه الحركة، فقد خصص الملتقى دورته في هذا العام لكتابة مصحف بخطي المحقق والريحاني اللذين كانا من أنفس الخطوط في القرن الخامس الهجري، وكان يكتب بهما القرآن الكريم، لكنهما اندثرا، واستبدلا بخط النسخ الذي أصبح أكثر ملاءمة للكتابة على الورق، وأبانت التجربة عن إمكانات فنية عالية لهذين الخطين، وما يمكن أن يضيفاها من اللمسات الجديدة إلى خيال وعمل الفنان الذي يمارسهما، خصوصاً أن الخطاطين المشاركين في الملتقى عندما بحثوا في هذين النوعين من الخطوط وجدوا لهما أساليب متعددة بتعدد الخطاطين القدماء الذين مارسوهما، وهو ما يثري الإمكانات الإبداعية، ويتيح للفنان الموهوب إمكانات لا حصر لها، وإذا كان هذا هو حال الإمكانات بالنسبة لخط المصحف الذي يتبع رسماً ثابتاً لا يجوز العدول عنه، فماذا سيكون حال كتابة اللوحة الخطية؟ لا شك أن الإمكانات الفنية والإبداعية ستكون مفتوحة على مصراعيها مع هذين الخطين، وماذا لو عممت التجربة في كل أنواع الخطوط المندثرة؟ إن مهمة الخطاط العربي اليوم مهمة مزدوجة، فمن جهة عليه أن يقدم إبداعاً جمالياً متميزاً، لا يكون تكراراً وتقليداً لمن سبقوه، وأن يستفيد مما يوفره له عالم الفنون التشكيلية والبصرية بشكل عام، استفادة لا تلغي خصوصيته، ولا تذيب فنه في هذه الفنون، لأنه فن له هويته وخصوصيته وجماليته المستمدة من رؤية الإبداع والجمال في الحضارة العربية الإسلامية، وإذا لم يحافظ على هذه الخصوصية، فسوف تذهب لمسته الفنية، ويصبح شيئاً مشوهاً لا قيمة له، ومن جهة أخرى عليه أن يجتهد في إحياء تراثه الإبداعي والاستفادة بأقصى حد من جماليات ذلك التراث، واستخلاص تقنياته وتكويناته بشكل حر لا يجعله خاضعاً بشكل كلي لمعايير الأقدمين، وعليه أن يكون واعياً بالنسبة للحظته التاريخية التي يعيشها، مندفعاً نحو الإضافة، ومن هنا تأتي قيمة إحياء الخطوط والأساليب، القديمة، فإذا كان الخط المحقق - مثلاً- قد ترك قديماً لأنه كبير الحجم يستهلك الكثير من الورق عند كتابة المصحف به، فهو لن يشكل اليوم للخطاط مشكلة مع استقلال اللوحة الخطية عن المصاحف والكتب، واستقلال الخط كفن عن الكتابة الديوانية والعلمية، فيمكن للخطاط استغلال وتطوير إمكانات هذا النوع من الخط في صناعة تكوينات فنية جميلة على لوحته. ما ينطبق على المحقق ينطبق على غيره من الخطوط المهجورة مثل خط الإجازة الذي يجمع خصائص من خطي الثلث والنسخ، فيأخذ من الثلث تنوع وتعدد أشكال الحرف في المقطع الواحد، وطواعيتها مما يعطيه نفس القابلية التركيبية لخط الثلث، ويأخذ من خط النسخ صغر أحجام الحروف، مما يجعله قابلاً لكتابة نص متعدد الأسطر، ويجعله مقروءاً بسهولة، ولذلك كان يستخدم لكتابة الإجازة العلمية التي يكتبها العالم المدرس للطالب المتخرج على يديه، وقد وجد الخطاطون في خط الإجازة على مر العصور فرصة للتصرف والإضافة، كل بحسب أسلوبه وميوله الفنية نحو النوعين المكونين لهذا الخط، ما جعل مخطوطات الإجازة غنية بالإبداعات الفنية، ولا شك أن هذه الإبداعات يمكن أن تخدم الفنان المعاصر، الذي لن يكون مطالباً بكتابة نص إجازة على نسق ما كان يكتب قديماً، بل عليه فقط أن ينظر في ذلك الغنى الأسلوبي، ويطعم به لوحاته الجديدة، ويستفيد من خواص المزج بين حجم الثلث الكبير وحجم النسخ الصغير، فهذه أصول للتصرف والإضافة تحفز الخيال، وتبعث على التجديد. تعد محاولات الخطاط السوري منير الشعراني إحدى أبرز المحاولات التجديدية الراهنة في مجال اللوحة الخطية، وهي مثال على الرؤية البصرية الحداثية، والاستفادة من الإمكانات الإبداعية اللانهائية لفنون الخط العربي، مع الإخلاص لقواعد الخط والتشبث بأصوله، فلوحاته تحمل دائماً جملاً ونصوصاً ذات دلالة ثقافية، تحمل قيماً فنية هي مزيج من خصائص عدة خطوط تقليدية يمزجها في تكوين بصري رائع يستجيب لخصائص التشكيل المعاصر، وفي أعماله نجد ملامح الحرف الكوفي الأصلي الذي كان الأساس لكل الخطوط اللاحقة، وهذه العودة إلى أبعاد الأشكال في التأصيل تسمح له بانطلاقة جديدة مطورة، مصحوبة بخيال الخطاط المبدع، بكل الإضافات على ذلك الأصل، وتستفيد منها عند الحاجة، خاصة الخط النيسابوري والكوفي الأندلسي وغيرها من الأنواع، وكذلك تمثل تجربة الخطاط العراقي حسن المسعودي ملمحاً تجديدياً يحيي الأصول الخطية ويستفيد من خصائصها، وتقوم تجربة المسعودي على مثال الكتابات الخطية المستخدمة في العمارة الإسلامية، وهو يستفيد من خواص التقطيع والتركيب في تلك النماذج الخطية التي تكتب على الحجر، ولا يقتصر الأمر على هذين الخطاطين فهناك محاولات متعددة من خطاطين كثر، لكن المجال واسع وكنوزه لا يمكن حصرها، بالنظر إلى أن تاريخ الخط العربي يحصي ما يربو على مئتي نوع من الخطوط، فهذا البحر الهائل، يمكن أن يتحف الخطاط الحاذق الذي يمتلك حساً فنياً بمنبع ثر لإبداع لا ينضب.
مشاركة :