بعد مرور ثماني سنوات على الأزمة المالية العالمية، التي انطلقت شرارتها في الولايات المتحدة بسبب قروض الرهونات العقارية للقطاع الخاص في 2008، وانتقلت بعدها إلى أوروبا عندما تفجرت أزمة الديون السيادية في 2011، ما زالت نتائجها تعصف باقتصادات الدول على كل مستوياتها. فالدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، والاقتصادات الناشئة كالصين والبرازيل وجنوب أفريقيا وروسيا، والدول النامية تعاني كلها من انخفاض في معدلات النمو الاقتصادي والبطالة. ولأن الأزمة بدأت مالية كأزمة ديون، أخذت الولايات المتحدة إجراءات نقدية في شكل رئيس لمعالجتها. واعتبر المسؤولون في الولايات المتحدة أن سياسة التيسير النقدي، ستؤدي إلى مساعدة الأخيرة على التخلص من ديونها السيئة. وانتقلت فكرة التيسير النقدي من الولايات المتحدة إلى منطقة اليورو ومن ثم إلى اليابان. ولكن معدلات النمو الاقتصادي فيها ما زالت منخفضة. وتقوم المنظمات الدولية بخفض توقعاتها لمعدلات النمو العالمي باستمرار. يعتمد النشاط الاقتصادي الخاص بشقيه الاستهلاكي (ما عدا الضروري) والاستثماري، بدرجة كبيرة على الثقة. وأهم مقومات هذه الثقة هو مستقبل الوظائف بالنسبة الى المستهلكين ومستوى الطلب بالنسبة الى المستثمرين. والمقصود هنا هو الطلب المحلي بشقيه الخاص والعام والطلب الخارجي أي الصادرات. ولا ينكر أحد أن الأزمة المالية العالمية التي تفجرت بعد انهيار بنك «ليمان براذرز» في 15 أيلول (سبتمبر) 2008، وتسببت بخسارة الملايين وظائفهم، جردت الأفراد من الثقة بالوضع الاقتصادي وأصبح هم كل فرد أن يتمسك بما لديه من مدخرات وتقليص استهلاكه. وهذه ظاهرة تم رصدها وقياسها في الكثير من الدول المتقدمة في ثمانينات القرن الماضي عندما ارتبطت ظاهرة ارتفاع الإدخار الفردي بظاهرة تزايد معدلات البطالة. وعلى مستوى أكثر تعقيداً يكون سلوك المستثمرين. فالاقتصادات المتقدمة أدركت منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي أن المستثمر لا يهتم بانخفاض سعر الفائدة بقدر اهتمامه بمستقبل الطلب في الداخل والخارج. وتختلف النظرة السياسية والاقتصادية بين الدول إلى جدوى سياسة التيسير النقدي. فألمانيا ترى أن الإصلاحات الهيكلية وبالذات خفض الدَين العام والخاص وعجز الموازنة وزيادة الضرائب، هو الذي سيعيد الحياة إلى معدلات النمو الاقتصادي، بينما ترى الولايات المتحدة، وبسبب بعض النتائج الإيجابية على معدلات البطالة وتجارة التجزئة، أن سياسة التيسير النقدي ستعطي مفعولها في الأمد الطويل، بينما ما زالت نتائج هذه السياسة في اليابان غير واضحة إيجاباً على الصادرات وعلى معدل النمو الاقتصادي. ولا يخفي الكثير من الاقتصاديين تخوفهم من أن تؤدي سياسة التيسير الكمي إلى تشجيع البنوك على الإقراض الذي سيؤدي إلى خلق فقاعات مالية جديدة. كما لا يخفون تخوفهم من أن العالم مقبل على أزمة اقتصادية ثانية. إذاً ما يحتاجه الاقتصاد العالمي في الوقت الحاضر هو مزيد من الثقة بمستقبل الاقتصاد على مستوى المستهلكين والمستثمرين. في الظروف العالمية الراهنة أي الظروف التي تنعدم فيها الثقة بمستقبل الاقتصاد، لا تستطيع السياسة النقدية السهلة تحريك الوضع الاقتصادي. وهذا درس سبق وتعلمته الدول المتقدمة من كساد ثلاثينات القرن الماضي. فعندما يتردد المستهلكون والمستثمرون في الإنفاق على الاستهلاك والاستثمار ويتمسكون بما لديهم من نقود، تبرز الحاجة الى وجود طرف ثالث يأخذ مبادرة الإنفاق ويحرك الطلب على السلع والخدمات. وعندما يقوم هذا الطرف بالمبادرة الأولى لتحريك الطلب سيشجع المستهلكين والمستثمرين على زيادة طلبهم أيضاً. وهذا الطرف هو الحكومة من خلال إنفاق الموازنة العامة و/أو العالم الخارجي من خلال زيادة الطلب على الصادرات. لم تنصح النظرية الكينزية والتي عالجت الكساد الكبير في الثلاثينات، بتمويل الزيادة في الإنفاق الحكومي من طريق زيادة الضرائب، بل من خلال طبع النقود أي الاقتراض من البنك المركزي. ولكن الظروف الاقتصادية العالمية الحالية أفضل كثيراً من فترة الثلاثينات. وقد لا تضطر الحكومة إلى تمويل إنفاقها كله من خلال طبع النقود وإنما أيضاً من الإقتراض من المصارف. وسيشجع رفع سعر الفائدة على زيادة مدخرات الأفراد. وعندما تقترض الحكومة من المصارف وتوسع من حجم إنفاقها والذي يفترض أن يؤدي إلى زيادة فرص العمل في مشاريع منتجة كمشاريع البنية التحتية، وتحويل بعض المشاريع القائمة إلى مشاريع صديقة للبيئة، ستخلق شعوراً بالثقة لدى المستهلكين والمستثمرين. وتستطيع الدولة زيادة الطلب على صادراتها من خلال منح شركائها التجاريين ما يسمى بائتمانات التصدير. كما أن خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030، والتي أطلقتها في أواخر 2015 دخلت حيز التنفيذ. وتعهدت الدول المتقدمة بموجبها بمساعدة الدول النامية والأقل نمواً بما يعادل 0.7 في المئة و0.9 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي على التوالي. وتستطيع الدول المتقدمة تقديم مساعداتها بطريقة عينية تمثل طلباً على منتجاتها. وبذلك تساهم هذه المساعدات بوضع اقتصادات الدول المتقدمة على مسار النمو مجدداً. *كاتبة متخصصة بالشؤون الاقتصادية
مشاركة :