«... وحين كان تشاباييف يتقدم دائراً من حول سفح تل، كان ايزنشتاين نفسه ينسى ما اذا كان المشهد قد صُوّر في لقطة مكبرة، او متوسطة او في لقطة اميركية. وكان ينسى ما اذا كان صوت حذاء البطل متماشياً زمنياً مع صوت خبب الحصان، وما اذا كانت المشاهد المصورة كلها تختفي في الظل او بفعل ظهور لقطة اخرى». قائل هذا الكلام كان السينمائي السوفياتي الكبير دوفجنكو. اما استخدامه لاسم زميله ايزنشتاين فلم يكن إلا للتعبير عن قوة ما يقول بمعنى انه اذا كان مخرج كبير ومتقدم التقنية مثل صاحب «المدرعة بوتمكين» هذا، قادراً على ان ينسى وهو يشاهد فيلماً لزميل له، فيغض الطرف عن كل تلك التفاصيل التقنية التي كان قد جعل من مسار فنه كله أطروحات نظرية وتطبيقات عملية دفاعاً عنها، ودعوة الى اتباعها، فإن هذا يعني ان الفيلم الذي يجري الحديث عنه، على هذه الشاكلة، قوي وقادر على ان يذيب متفرجه في اعماقه بحيث ينسى تفاصيله التقنية كلها. > هذا الفيلم المعني هنا والذي يتحدث عنه دوفجنكو بكل هذه الحماسة الإيجابية فلم يكن لا من اخراج ايزنشتاين ولا من تحقيق دوفجنكو، بل كان فيلماً سوفياتياً شعبياً حربياً حققه في عام 1934 مخرجان أخوان لم يكونا في ذلك الحين على شهرة كبيرة، هما سيرج وجورج فاسيلياف. أما عنوان الفيلم فهو «تشاباييف»، وهو الفيلم الذي اعتبر دائماً واحداً من اهم عشرة افلام حققتها السينما السوفياتية الكلاسيكية. كما كان له حين عرض للمرة الأولى صدى كبير، ولكن ليس داخل الاتحاد السوفياتي فقط، بل في العالم اجمع. ويروى ان صفوف المنتظرين للحصول على بطاقة لحضوره في فرنسا، مثلاً، كانت تصل في بعض الأمسيات الى مئات الأمتار. فما الذي جعل لفيلم حربي كل هذه الأهمية، في ذلك الحين؟ > الجواب، في اختصار، هو: رواية الفيلم، والشخصية المحورية التي يتحدث عنها. الشخصية التي اعارت اسمها الى عنوان الفيلم: تشاباييف. ثم ان الرواية كانت معروفة، داخل الاتحاد السوفياتي وخارجه. ويقال إنها منذ صدور طبعتها الأولى في العام 1923، طبعت 120 طبعة خلال ثلاث سنوات وترجمت الى اكثر من 35 لغة. والرواية هي من تأليف الكاتب ديمتري فورمانوف، والحقيقة ان هذه الرواية كانت في زمانها واحدة من اولى الروايات التي سعت الى تمجيد النضال الحزبي البولشفي، ولكن - وهنا يكمن سرّ قوتها - من دون ان تقسم العالم الى ابيض وأسود، تلك القسمة المعهودة من لدن الكتاب «الثوار» والتي كانت قد شكلت طوال عقود متعددة من السنين جوهر الأدب والفن اللذين سميّا بـ «الواقعية الإشتراكية» لترتبط باسم ستالين ثم لاحقاً بالجدانوفية الشهيرة. لقد كانت الحساسية التي اتبعها مخرجا الفيلم، في تحقيقهما له نفس الحساسية الإنسانية التي طبعت الرواية نفسها. وفي هذا المجال لا بأس من أن نرى ما كتبه الناقد الشيوعي الفرنسي جورج سادول في هذا الصدد، حول هذا الفيلم: «لقد عرف مخرجا الفيلم وممثلوه كيف يخلقون شخصيات بطولية، تكون شديدة الإنسانية في الوقت نفسه: تشاباييف بمعطفه القوزاقي ذي الكتفين العريضتين، وقبعته الفرو، وتصرفاته الأنيقة وحكمته، فورمانوف الصارم والمتأمل في بزته العسكرية ذات الحزام الجلد المشدود، والمقنع في كلامه... وخصوصاً الجنرال الأبيض، قائد الأعداء الذي يقدم إلينا انساناً طبيعياً يحب الموسيقى ولا يبدي اي احتقار لأعدائه او تصغيراً من شأنهم: إنه، بقدر ما هو قاس، ذو نزعة انسانية لا يمكن للمتفرج إلا ان يلاحظها». والحال ان مثل هذا كان جديداً ومفاجئاً في عز الحقبة الستالينية، التي حقّق الفيلم فيها، تماماً كما كان مفاجئاً في عز الحقبة «الثورية» التي نشرت الرواية فيها. والغريب ان الرقابة الصارمة غضت الطرف تماماً عن الرواية وكذلك عن الفيلم. > فما الذي تتحدث عنه الرواية... ثم الفيلم؟ عن أمرين اثنين: شخصية تشاباييف نفسه، وفصل قاس من فصول الحرب الأهلية التي تلت قيام الثورة البولشفية. ولقد اختار الكاتب فورمانوف، ان يحكي ذلك الفصل من خلال تلك الشخصية. وهو لئن كان قدّم نفسه في الرواية، كواحد من شخصياتها الأساسية هو الذي يظهر راوياً للأحداث التي يقول لنا انها تشكل بعض ذكرياته، من خلال شخصية المفوض السياسي الشيوعي لدى قوات الحرس الأحمر في سيبيريا، موقع الأحداث، تحت اسم كليتشكوف، بيد ان الفيلم اعاد إليه اسمه، إذ انه يروي لنا على لسان فورمانوف نفسه، الذي يلعب هنا دوراً اساسياً، ويحكي لنا فصول ذلك العمل المتحلق من حول شخصية تشاباييف. وتشاباييف هذا كان في الأصل نجاراً بسيطاً وأميّاً تطوّع مجنداً خلال الحرب العالمية الأولى، حيث أبدى من البطولة والحنكة العسكرية والاستراتيجية، ما جعله يرقّى الى رتبة كولونيل في العام 1919، من قبل قيادة الحرس الأحمر الذي كان تأسّس دفاعاً عن الثورة حين اندلعت وأمسكت بالسلطة. ولقد عهدت القيادة الى تشاباييف بقيادة فرقة عسكرية تخوض القتال ضد «الرجعيين» البيض المعادين للثورة بقيادة كولتشاك على جبهة سيبيريا. وهناك التقاه الكاتب/ الراوية، يوم ألحق بالجبهة مفوضاً سياسياً. والرواية تقول لنا كم ان الكاتب انبهر بشخصية هذا القائد الاستثنائي، بحيث اقام توازناً مدهشاً في النص، بين ما هو عامّ (المعركة والصراع والأجواء الطبيعية والعلاقات المتوترة حيناً والرفاقية أحياناً بين شخصيات المعسكر الواحد) وبين ما هو خاص (تفاصيل شخصية تشاباييف)، وإن كان قال، والمخرجان اكدا من بعده، بأن الرواية تريد، اصلاً، ان تصف البطولة الجماعية من خلال بطولة الفرد. > انطلاقاً من هنا لا تعود الأحداث، بالطبع، شديدة الأهمية، إذ - تاريخياً - نعرف ان قوات الحرس الأحمر هي التي ستنتصر في النهاية، وأن «البيض» سيندحرون. ما يهم هنا هو الصورة المفصلة التي يصوّر لنا الفيلم بها كيفية انعكاس الصراع على الأفراد. وتحديداً: على الأفراد المميّزين، من طينة تشاباييف. وهذا «الكيف» هو الذي سيعتمد، من بعد هذه الرواية - وهذا الفيلم - كثيراً، بحيث يصبح جزءاً من الأدب الثوري، وذلك في مجال تقديم الأحداث الكبرى من خلال الناس البسطاء الاستثنائيين وتحديداً البسطاء في إنسانيتهم («درسو أوزالا» في فيلم لاحق للياباني آكيرا كوروساوا، مثلاً). > تدور احداث «تشاباييف»، إذاً، حول مجموعة من العمال الذين تطوعوا خلال الحرب الأهلية، في ذلك العام الاستثنائي 1919، للقتال ضد «البيض» انصار النظام القديم، على الجبهة السيبيرية. وتشاباييف، قائد تلك المجموعة، هو في الوقت نفسه بطلها الأسطوري الذي تُروى الحكايات عن مآثره خلال الحرب العالمية الأولى. ومن خلال هذه الشخصية التي يعايشها الكاتب/ الراوي ويصفها، ثمة الكثير من الشخصيات الأخرى: فرونزي، قائد الجيش (وهو، مثل تشاباييف، شخصية حقيقية عاشت حقاً) والمقاتلة بالرشاش انكا والجندي بيوتر ايساييف وغيرهم... غير ان الراوي يقدم لنا كل الأحداث، اساساً، من خلال افعال تشاباييف وردود فعله وعلاقات هذه الشخصيات به. ولئن كان قد أُخذ على الكاتب، ثم على المخرجَيْن، شيء من المبالغة في وصف شخصية تشاباييف، فإن الجواب كان دائماً: «ان على شخصية تشاباييف، في هذه الرواية، ان تعتبر شخصية جماعية». وهذه الرسالة وصلت، إذ ان كثراً من المقاتلين والمناضلين رأوا صورتهم في تشاباييف. ولكن من ناحية ثانية لا بد من الإشارة الى انه في الحقبة التي حقق فيها الفيلم (1934)، اتت مشاهد مسيرات الجيش الأبيض المنظمة والمرعبة شبيهة بمشاهد مسيرات النازيين المنظمين في نورنبورغ... وإذ كانت صور هؤلاء أرعبت العالم أمام بروز خطر هتلر النازي، فإن «تشاباييف» اتى ليقول ان حفنة من المناضلين الأنصار يمكنهم الانتصار على الآلة العسكرية الكبيرة والمنظمة، إذا كان لأفرادها - اي افراد الحفنة - ان يقادوا من قبل شخص مثل تشاباييف ويتشبهون به. وكانت هذه هي رسالة الفيلم الأساسية. alariss@alhayat.com
مشاركة :